زكي الميلاد
هناك مفارقات لافتة في ديناميات تطور العلاقة بين الإسلام والديمقراطية في المجالين العربي من جهة، والإسلامي غير العربي من جهة أخرى، بحيث يمكن القول إننا كلما ابتعدنا عن المجال العربي، وجدنا نمطا ومسارا مختلفا ومغايرا في ديناميات تطور هذه العلاقة، هو أكثر نضجا وتقدما من النمط والمسار السائد في المجال العربي.
وتتكشف هذه الملاحظة بالإشارة إلى مفارقتين أساسيتين، هما:
أولا: في المجال العربي كان الجدل والنقاش وما زال حول الإسلام والديمقراطية، يتحدد بصورة رئيسية ويتركز حول العلاقة بين الشورى والديمقراطية، وبطريقة يغلب عليها الجدل النظري المتحيز أيديولوجيا من جهة، والمفـتقر للعمق المعرفي من جهة أخرى.
والأقوال المتداولة في هذا الشأن، باتت متكررة ومعروفة لكثرة الحديث عنها، وتعيد إنتاج نفسها كما هي أو بصور مختلفة، فهناك من ينحاز إلى الشورى ويرفض الديمقراطية أو يتحفـظ عليها، إلى جانب من ينحاز إلى الديمقراطية ويرفض الشورى أو يتحفظ عليها.
وهناك من يرى إمكانية الجمع بين الشورى والديمقراطية، إلى جانب من لا يرى إمكانية الجمع بينهما. وهناك من يرى ديمقراطية في الشورى، إلى جانب من لا يرى ديمقراطية في الشورى،
وهناك من يرى أن الشورى ملزمة، إلى جانب من يرى أنها معلمة.
إلى غير ذلك من أقوال لا تقدم ولا تؤخر، وكان يفترض أن تكون من مخلفات الماضي وعفى عليها الزمن، وتلاشت واضمـحلت، لأنها لا تحرك ساكنا، ولا تغير واقعا، ولا تقدم حلا، ولا تعالج مشكلة.
ومتى ما ابتعدنا عن المجال العربي تغير هذا النمـط من الجدل النظري العقيم، إلى نمـط ومسار آخر بعيدا عن المطارحة أو المفاضلة بين الشورى والديمقراطية، إلى البحث عن إمكانية التوافق والتناسب والتكيف بين الدين والديمقراطية، على قاعدة التمسك بالديمقراطية وليس رفضها أو التشكيك فيها.
ثانيا: إن الأصوات التي ارتفعت عاليا في رفض الديمقراطية ومقـتها وتصويرها بأشد الأوصاف تنكيرا، واعتبارها كفرا ومنكرا واستلابا وعصيانا لأمر الله سبحانه، وخروجا على هدي الدين وشريعته، إلى غير ذلك من نعوت وأوصاف بالغة الذم والتنكير.
هذه الأصوات الصاخبة إنما ظهرت وعرفت وارتفعت نبرتها بشكل أساسي في المجال العربي، ومتى ما ابتعدنا عن هذا المجال إلى المجال الإسلامي غير العربي خفت هذه الأصوات، وهدأت نبرتها، وكادت تختفي وتتلاشى، وإذا وجدت فإنها لا تحظى بالوزن الذي هي عليه في المجال العربي.
ويذكر أن الشيخ يوسف القرضاوي حين ذهب إلى الجزائر ليشرف على الجامعة الإسلامية هناك، فوجئ بأن السؤال حول العلاقة بين الديمقراطية والكفر يلاحقه حيثما ذهب في الجامعة، أو في
المساجد، أو الملتقـيات العامة، وأصبح هذا السؤال ملحا عليه، وانتظر إلى أن تلقى سؤالا مفصلا من أحد الجزائريين يستفـتيه عن هذه العلاقة، بحجة أن الديمقراطية تعني حكم الشعب، بينما الإسلام يدعو إلى حكم الله، فأجابه بشكل مفصل في فتوى شرعية أجاز فيها الديمقراطية شرعا، وفند علاقتها بالكفر، وضم هذه الفتوى لاحقا إلى الجزء الثاني من كتابه (فتاوى معاصرة)..
وحساسية هذه الأصوات المنافية للديمقراطية أنها تقفل الحوار في وجه الديمقراطية، ولا تفتح هامشا ممكنا ولا حتى ضيقا للنظر في الديمقراطية، وخلقـت مناخا ملتبسا ومخيفا أحيانا من الاقتراب تجاه الديمقراطية أو الانفتاح عليها.
ولا شك في أن هذه الأصوات بهذه الحدة والتشدد تعيق بشدة تطور العلاقة بين الإسلام والديمقراطية، وكونها ظهرت وعرفت أكثر في المجال العربي، فهذا يعني أن البيئة الثقافية في المجتمعات العربية هي أشد تأزما من المجتمعات الإسلامية الأخرى التي لم تظهر فيها مثل هذه الأصوات، أو بهذه الشدة.










التعليقات