مشاري الذايدي


خشبة خلاص، هي دعوة الملك عبد الله بن عبد العزيز للعراقيين إلى laquo;الحوارraquo; والخروج من الشلل الذي أصاب العراق بسبب عجز الأطراف السياسية عن تشكيل حكومة بعد مرور ثمانية أشهر على إجراء الانتخابات النيابية.

خشبة خلاص ربما تكون الأخيرة قبل أن يغرق العراق لوقت طويل، ولا نقول نهائيا، في بحر الظلمات.

كثير من القوى السياسية العراقية رحب بالدعوة، لكن يجب على الأحزاب والتيارات السياسية العراقية التي لا تكن ودا للسعودية، أن تلبي هذه الدعوة، على الأقل من باب التجريب وطرق هذا الباب الذي لم يطرق من قبل.

لنتحدث بلغة عملية أكثر منها أخلاقية، لمن يشككون في هذه الدعوة laquo;الحارةraquo; من قائد المملكة العربية السعودية، لقد جربتم الحل الإيراني، ولم يصل بكم إلى نتيجة، رغم كل الحضور الإيراني laquo;الغزيرraquo; في العراق، والاختراق العميق لجسد السلطة والمجتمع المحلي، خصوصا في الأوساط الشيعية، ورغم نشاطات الحرس الثوري عبر فصيله الشهير laquo;فيلق القدسraquo; كما فضحت وثائق laquo;ويكيليكسraquo;، ومع ذلك فها هي ثمانية أشهر لم تترجم كل هذه الاستثمارات الإيرانية السياسية والأمنية إلى أن يشكل نوري المالكي، حليف إيران، حكومة ترضى عنها كل الأطراف العراقية، حتى الشيعية منها، مثل المجلس الإسلامي بقيادة الحكيم.

أميركا التي أسقطت نظام البعث الصدامي وجلبت جيوشها وجنودها، وهي عمليا الوصية الدولية على العراق، أيضا لم تفلح بسوق الأحزاب العراقية في الاتفاق على حكومة، رغم كل laquo;المرونةraquo; التي أبدتها تجاه إيران والتقاء المصالح laquo;المؤقتraquo; مع إيران حول شخص نوري المالكي.

بقي أن يجرب العراقيون أخيرا طاولة الزعيم الكردي مسعود بارزاني المستديرة في أربيل، وهي الطاولة التي لم يتبين بعد نوع الطعام الموضوع عليها، وهل يناسب أذواق كل المدعوين إلى وليمة أربيل.

إذن، ومن باب عملي بحت، لم يكن من المنطقي والعقلاني أن يبادر حزب المالكي إلى التشكيك في المبادرة السعودية، ورفضها حتى قبل أن يتبين فيها وجه النهار! حتى ولو كان المالكي ومن معه من حزب الدعوة أو بعض الأصوات الصدرية يضمرون الرفض للمبادرة السعودية - إما بأمر من إيران أو بسبب تراكمات الكراهية - فقد كان من الحصافة أن يجعلوا المبادرة تمتحن على الأرض، وتجرب فعاليتها، ثم إذا أخفقت ولم تصل بالعراقيين إلى حل، يكون عبء الإخفاق على المبادرة لا أن يكونوا هم سبب إفشالها قبل أن تبحر سفينة الدعوة السعودية في مياه المفاوضات العراقية.. إنه تصرف أقرب للنزق.

للسعودية ndash; كبلد - رصيد معنوي ضخم لم يستنزف في العراق، فما انتقده بعض الساسة العراقيون من تأخر السعوديين عن التدخل في العراق - وربما هو انتقاد محق - لعله يكون ورقة قوة خفية وغير مقصودة، لكن الخير يأتي أحيانا فيما لا نخططه.

رصيد الدولة السعودية نقي ونظيف في العراق، هي لم تتدخل في الأحزاب والسياسة، ولم تصنع مثل إيران التي زجت بفرق الحرس الثوري إلى الأرض العراقية، ولم تدر هذا الحزب أو القيادي السياسي أو ذاك، كما أشارت بجلاء وثائق laquo;ويكيليكسraquo;، وكما يعرف حجم هذا التدخل الفج واليومي والشامل كل العراقيين.

تساهم السعودية، أخيرا، في الشأن العراقي، وهي تملك ورقة بيضاء لم تلوث بإرث السنوات الماضية بعد سقوط نظام صدام حسين.

سيقول البعض: وماذا عن الانتحاريين والإرهابيين السعوديين الذين انضموا إلى تنظيم القاعدة بقيادة الزرقاوي في العراق؟

هذا سؤال مستحق، ولكن الجواب عنه سهل ويسير، فالسعودية laquo;الدولةraquo; عانت الأمرين من هؤلاء الشبان ومن هذه المنظمة. فكما كان الزرقاوي يستهدف السلطة الناشئة في العراق ويفجر في بغداد ويقتل جنود الجيش العراقي وقوى الأمن، فهو كذلك كان يكفر الدولة السعودية بذات الحماس، وقد سمى بعض فصائله وسراياه العاملة في العراق باسم laquo;عبد العزيز المقرنraquo; أحد قادة laquo;القاعدةraquo; في السعودية، الذي نفذ عمليات إرهابية وحشية في الرياض وقتل فيها على يد الأمن السعودي.

لست أظن أن أحدا في العالم، خصوصا الأجهزة الأمنية، ينكر فاعلية الدور السعودي الأمني في إنهاك تنظيم القاعدة وملاحقته، وآخر ذلك اعتراف أميركا وقبلها فرنسا بمحورية الدور السعودي في إحباط مخطط laquo;القاعدةraquo; الخطير لاستهداف الأراضي الأميركية وبعض الدول الأوروبية عبر عملية laquo;الطرود المفخخةraquo;.

حجة باهتة إذن أن تدان الدولة السعودية بما هي تحاربه أصلا!

بقي أن يقال: وماذا عن طاولة الحوار المستديرة التي يعقدها الآن العراقيون في أربيل بدعوة الزعيم الكردي مسعود بارزاني؟

ولست أظن أن في ذلك ما يزعج السعودية، على العكس من ذلك، فقد قال وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل في مؤتمره الصحافي الذي شرح فيه نداء الملك عبد الله للعراقيين، إن laquo;السعودية تثمن مبادرة رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني لإدارة حوار بين الفرقاء السياسيين في العراقraquo;.

ميزة الدعوة السعودية أنها ليست مثقلة بالشروط والطلبات والطموحات وlaquo;المشاريعraquo; الخاصة. عكس إيران ذات الأحلام التاريخية والحالية في العراق.

هل يعني ما سبق أن السعودية تمارس دور laquo;الأم تيريزاraquo; فقط في العراق؟

من الخفة أن نقول بذلك، ففي النهاية الدعوة هي عمل سياسي بامتياز، ولكنه عمل سياسي واضح المغزى.. ببساطة: ماذا تريد السعودية من العراق؟

والجواب أنها تريده عراقا آمنا مستقرا موحدا، لا تريده عراقا فوضويا مرتعا لـlaquo;القاعدةraquo; والحروب الأهلية بين الشيعة والسنة والأكراد، ليس فقط بسبب قبح الفوضى والحروب الأهلية، وهي قبيحة فعلا، بل لأن السعودية أيضا تملك حدودا هائلة مع العراق، العراق واليمن هما أكبر جارين للسعودية من حيث طول الحدود، فكيف تحتمل السعودية بلدا فوضويا يعج بالحروب الأهلية والطائفية على حدودها؟!

هذا هو المغزى العملي من الدعوة السعودية، الذي هو في الوقت نفسه مطلب أخلاقي أيضا، حيث لا يوجد إنسان سوي أو دولة مستقرة محبذة للسلام إلا وتسعى إلى إشاعة هذا المناخ الاستقراري في الإقليم كله، فكيف بالجار اللصيق؟!

المبادرة السعودية ليست منطلقة فقط من السعودية، هناك الجامعة العربية، السعودية هي الحاضن والمقر وlaquo;الخيمةraquo; التي تقي العراقيين المتحاورين حر الأطماع ورياح الفتن، برعاية الجامعة العربية. وعليه، فهي مبادرة عربية بحضن سعودي. وكما قال وزير الخارجية السعودي في مؤتمره: laquo;المبادرة تحترم إرادة الشعب العراقي، والمملكة ليس لديها أي تحفظ على تولي أي شخصية رئاسة الحكومة العراقية، كما أن المبادرة تستند إلى قرارات القمة العربيةraquo;.

أخيرا، كل محب للعراق المستقر والآمن يتمنى أن ينجح العراقيون أنفسهم في الوصول إلى طريق السلامة من خلال مؤتمر أربيل، فليست القصة لدى السعودية سباق مبادرات أو حرصا فارغا على الحصول على إشادة هنا أو هناك، بقدر الحرص على laquo;جوهرraquo; الموضوع، وجوهر الموضوع هو السلام والأمن في العراق.

لكن إن لم ينجح مؤتمر أربيل ولم ترض مائدته المستديرة أذواق أرباب السياسة، فهناك مؤتمر الرياض، وهو ليس بعيد المنال. وإن أصر بعض الساسة العراقيون، من الآن، على محاربة المؤتمر، فقط لأنه تم دون إذن إيران، فعندها تكون السعودية ألقت عن كاهلها وزر ترك العراق دون مساعدة، ولا ملامة حينها على السعودية ولا على الملك عبد الله بن عبد العزيز الذي أشعل شمعة في الظلام بدل أن يكتفي بذم هذا الظلام.

هل يخيب القادة العراقيون ظننا السيئ هذه المرة، ويتفقون على كلمة سواء؟!