الخرطوم - عماد حسن
تظل علاقة ldquo;إسرائيلrdquo; مع أي دولة في العالم مثار جدل وريبة، ناهيك عن علاقتها بدولة داخل المنظومة العربية أو الجوار الإفريقي، فالاستنكار والانتقاد يحلان محل الجدل والريبة . والمحاولات ldquo;الإسرائيليةrdquo; لاختراق السودان قديمة، وباءت جميعها بالفشل، حتى تسعينيات القرن الماضي، ولا تعلق بالذاكرة السودانية سوى حادثة الفلاشا الشهيرة إبان حكم الرئيس السابق جعفر نميري، وهي القصة المعروفة بترحيل عدد من الإثيوبين ldquo;الفلاشاrdquo; من معسكرات نزوح شرق السودان إلى الكيان الصهيوني .
بعد تلك الحادثة لم تظهر ldquo;إسرائيلrdquo; على الخريطة السودانية إلا لماماً، وفي إطار تصريحات كيدية متبادلة، حتى علاقات الحركات المسلحة في دارفور بrdquo;إسرائيلrdquo; لم تخرج عن سياق المكايدات السياسية، حتى اكتشف الجميع أن ldquo;إسرائيلrdquo; حقيقة ماثلة في جنوب وغرب السودان، وطالت أياديها الخطوط الحمر والمحظورات في ldquo;منفستوrdquo; الحياة السودانية .
ظل الحديث عن علاقة الجنوب السوداني بrdquo;إسرائيلrdquo; مجرد تكهنات، حتى رحب وزير الإعلام بحكومة الجنوب، برنابا بنجامين، صراحة بإقامة علاقات جيدة مع ldquo;إسرائيلrdquo;، وقال في حديث سابق ل ldquo;الخليجrdquo;: ldquo;سيقيم الجنوب المستقل علاقات مع كل دول العالم، ولن نعادي أحداً، وللعلاقات الدولية أجندة على رأسها الاعتراف بالحكومات الناشئة، وأية دولة تعترف بنا سنقيم معها علاقات، ومثلما توجد علاقات دبلوماسية لبعض الدول العربية مع ldquo;إسرائيلrdquo;، فلماذا نحن لاrdquo;؟
لاحقاً، أعلن سلفاكير ميارديت رئيس حكومة الجنوب صراحة، أنه لا يستبعد فتح سفارة ل ldquo;إسرائيلrdquo; وإقامة علاقات بعد الانفصال، ويرى أن ldquo;إسرائيلrdquo; عدو للفلسطينيين فقط، وليست عدواً للجنوب . وقبله أعلن أموس يادلين الرئيس السابق للاستخبارات العسكرية في الكيان الصهيوني إنجاز عمل عظيم للغاية في جنوب السودان، من خلال تنظيم خط إيصال السلاح للقوى الانفصالية وتدريب العديد منها، والقيام بأعمال لوجستية، ونشر شبكات في الجنوب ودارفور، والإشراف حالياً على تنظيم الحركة الشعبية وتشكيل جهاز أمني استخباري لها .
بيد أن النفي القاطع والمتكرر من قيادات الحركة الشعبية لتلك العلاقة يكشف أن لعنة ldquo;إسرائيلrdquo; إذا ما التصقت بجهة ما فإنها تخسر كثيراً، وهذا ما أدركه قياديو الجنوب، ولو آنياً، لحين وقوع الانفصال وعندها لكل حادث حديث . غير أن نفي العلاقة لا يحقق مصداقية عدم وجودها على أرض الواقع، وبالأمس القريب أعلنت تقارير أن عشرات الآلاف من قوات الأمم المتحدة يستخدمون الفنادق بالجنوب التي يسيطر عليها ldquo;إسرائيليونrdquo; قدموا مع تدشين اتفاقية سلام الجنوب في 2005 . ووفقاً لبعض الإحصاءات يوجد في كل مدن جنوب السودان قرابة 45 فندقاً، و9 نزل صغيرة، و13 مخيماً، يسيطر على أغلبها بشكل غير مباشر قياديون من الحركة الشعبية ويوفرون لها الحماية . فيما قالت التقارير إن الوجود ldquo;الإسرائيليrdquo; في منطقة حوض النيل وجنوب السودان ليس مجرد صدفة، برغم أنه يدر مئات الملايين من الدولارات على الصهاينة، فمن جهة هو يوفر لهم أداة قوية لرصد كل المعلومات والأحداث التي تدور في المنطقة، ومن جهة أخرى يضع يدهم على منطقة مهمة في مسار مياه نهر النيل .
اليد ldquo;الإسرائيليةrdquo;
وترتفع تحذيرات من أن ldquo;إسرائيلrdquo; ستجعل من الجنوب قاعدة جديدة للاعتداء على الإسلام والمسلمين في إفريقيا، وأن انفصال الجنوب سيجعل ldquo;إسرائيلrdquo; قريبة جداً من أكثر من بلد عربي، وستكون لها القدرة على التحكم في بعض مياه النيل، والضغط من خلالها لتحقيق مصالحها، بل إن استطلاع أجراه المركز العربي الأوروبي أكد أن المطالبة بانفصال الجنوب تأتي ضمن سياق مخطط أمريكي صهيوني، وهو التكتيك الجديد في الحرب على المنطقة العربية، أي تقسيم الدول .
وتبدو التحذيرات أكثر حدة حينما يقول مراقب لقد وضع سلفاكير النقاط فوق الحروف، ولم يدع لاحتمالات حسن النوايا أي نصيب في تفكيرنا، وهو إذ يكشف سوءته بهذه الطريقة، إنما يوضح الهدف ويكشف للجميع عن المموّل والداعم الرئيس لحزبه، منذ عهد جون قرنق . فrdquo;إسرائيلrdquo; هي التي سلّحت ودعمت وموّلت، وبنفوذها الأخطبوطي تسعى للانتقال لمرحلة متقدمة من خطتها، أي فصل الجنوب رسمياً، وافتتاح سفارة تكون بمثابة قاعدة لنشاطاتها الاستخباراتية، وبقية ما تسعى إليه من حملات تعطيش للسودان ومصر، واستخدام العنصر الإفريقي لضرب العرب والمسلمين .
وقد انفتحت شهية ldquo;إسرائيلrdquo; على السودان منذ وقت طويل، عندما تكررت اللازمة الدعائية بأن السودان الذي يحتل مساحة كبيرة (مليون ميل مربع) هو سلة غذاء العالم، فشحذت ldquo;إسرائيلrdquo; أسلحتها، ووقفت بكل قوة وراء دعاوى انفصال الجنوب، لتضع قدمها هناك وتبدأ مسيرة استخباراتية لاستعمار من نوع جديد لكل ثرواته المعدنية والزراعية والحيوانية . وقبل كل ذلك للهيمنة على مياه النيل من جهة منابعه، بعدما فشلت محاولاتها عند نهايات جريانه ومصبه . يقول مراقبون إن الجنوب كان في الأجندة ldquo;الإسرائيليةrdquo;، وتلقى مساعدات ودعم منذ أن بدأت قياداته الذهاب إلى ldquo;إسرائيلrdquo;، بدءاً من مؤسس الحركة الشعبية لتحرير السودان جون قرنق، ومروراً بقيادات الوسط ومسؤولي المخابرات من بعده . ويرى كثيرون أن العلاقة بين الجنوب وrdquo;إسرائيلrdquo; استفادت من تهميشها وتقليل دورها من قبل القيادات الشمالية، بل إن استبعاد احتمال حدوثها جعل تلك العلاقة تترعرع في صمت وسرية، حتى بدأت المجاهرة بها تأخذ حيزاً في قاموس الخلافات والاتهامات المتبادلة بين الشريكين .
مخططات ldquo;إسرائيلrdquo; السرية لم تعد كذلك، حيث صاحبت الكشف عنها تحذيرات كثير من المراقبين من خطورتها على الأمن العربي، وأمن مصر على وجه الخصوص، وقد كشفت اجتماعات عقدت في تل أبيب بين أعضاء بالكنيست ldquo;الإسرائيليrdquo; ووزراء إثيوبيين، أنه تم بحث إقامة مشاريع مشتركة عند منابع نهر النيل، لحجز المياه، وتوليد الكهرباء، وضبط حركة المياه باتجاه السودان ومصر، وذلك بهدف إشغال مصر في قضية تمس أمنها القومي وهي قضية المياه . وكشف في حينها عن وعد ldquo;إسرائيليrdquo; للحكومة الإثيوبية بمعونة مالية تفوق المئتي مليون دولار، بالإضافة لمعدات حربية وأسلحة ثقيلة، وتهدف ldquo;إسرائيلrdquo; من دعم مشروعات إثيوبيا المائية، إضعاف وضرب مصر اقتصادياً، كما أنها لعبت دوراً كبيراً مع دول حوض النيل لنقض المعاهدة الدولية التي تنظم توزيع مياه النيل .
وفي مخطط ldquo;إسرائيليrdquo; آخر، كشفت تقارير بثها موقع ldquo;ديبكاrdquo; الاستخباري ldquo;الإسرائيليrdquo; في وقت سابق، نقلاً عن مصادر استخباراتية إفريقية، عن وجود نشاط وتعاون محموم بين أجهزة المخابرات الأمريكية وrdquo;الإسرائيليةrdquo; والفرنسية، لتنفيذ مخطط يهدف إلى تقسيم السودان إلى ثلاث دويلات، (دولة السودان الإسلامية، ودولة دارفور، ودولة في الجنوب)، وأشارت التقارير إلى أن أجهزة المخابرات المذكورة تعمل حالياً على تفكيك السلطة المركزية عبر عملاء داخليين وحركات متمردة .
ولمزيد من إلقاء الضوء، كشف يوسي ميلمان، الخبير الاستخباري ldquo;الإسرائيليrdquo;، عن قيام تل أبيب بعمليات استخبارية داخل دولة إريتريا من بينها عمليات تتعلق بعدد من الدول العربية، على رأسها مصر والسودان واليمن . واعتبر ميلمان، في تقرير له في صحيفة ldquo;هآرتسrdquo; التي يعمل فيها محللاً للشؤون الأمنية، عدم تعيين سفير لتل أبيب بإريتريا حتى الآن، أمراً خطيراً، مشيراً الى أن إريتريا من أهم الدول الاستراتيجية لسياسة تل أبيب الخارجية، موضحاً أن إريتريا كانت ومازالت منطقة تجمع لعدد من العمليات السرية للمخابرات ldquo;الإسرائيليةrdquo;، ونقطة مراقبة لعدد من الدول العربية المجاورة، وعلى رأسها اليمن ومصر والسودان، علاوة على أنها مركز لطرق البحر الأحمر وإيلات .
يقول القيادي الإسلامي والمفكر الأكاديمي البارز، الدكتور حسن مكي، إن ldquo;إسرائيلrdquo; هددت أمن الشمال بما فيه الكفاية . ويشير إلى أن التهديد مازال حاضراً وماثلاً . ويضيف مكي في حوار إعلامي إن الجنوب بالنسبة ل ldquo;إسرائيلrdquo; يمثل الدجاجة التي تبيض ذهباً . الآن ldquo;إسرائيلrdquo; موجودة في الفنادق بالجنوب وتبيض ذهباً للشركات اليهودية، وrdquo;إسرائيلrdquo; كذلك موجودة في شمال السودان، فحينما هجّرت ldquo;الفلاشاrdquo; لم تهجّرهم من الجنوب، وإنما هجرتهم من الخرطوم، وهي موجودة في السفارة الأمريكية، وموجودة وحاضرة في وكالات الإغاثة والأمم المتحدة، وفي كثير من الأجهزة . ويؤكد مكي، أن العلاقة بين قادة الجنوب وrdquo;إسرائيلrdquo; لم تنقطع أصلاً، ولم يكن آخرها مذكرات جوزيف لاقو والمخضرمين من قيادات الحركة الشعبية، فكل المساعدات السابقة كانت تأتي من ldquo;إسرائيلrdquo; والآن بعض حركات دارفور لها مكاتب في ldquo;إسرائيلrdquo; .
ورداً على سؤال حول أطروحات بعض الإسلاميين عن إمكانية إقامة علاقات سياسية مع ldquo;إسرائيلrdquo;، وهل ما زالت مثل هذه الأفكار موجودة وتنفيذها ممكناً، يقول مكي إن الرئيس الفلسطيني الأسبق ياسر عرفات ربما يكون مثالاً في هذا الموضوع، اختار الحوار مع ldquo;إسرائيلrdquo;، وكان يريد قيام دولة علمانية، ولتحقيق هذا الهدف دخل مفاوضات أوسلو، وفي النهاية مات مسموماً، الآن مصر أجبرت على بناء الجدار الفولاذي بينها وبين غزة كعمل تكتيكي لتأجيل معاركها مع ldquo;إسرائيلrdquo; وأمريكا .
ويضيف مكي المتخصص في شؤون القرن الإفريقي أن هناك دولاً أقامت علاقات مع ldquo;إسرائيلrdquo; وأجلت أمر المواجهة معها، ودولاً أخرى أقامت علاقات داخلية مثل بعض دول الخليج، بعضها لديها قنصليات، واستعادت علاقات قوية مع اللوبيات اليهودية ورجال الأعمال، وآخرون أقاموا علاقات دبلوماسية كما الحال بالنسبة لمصر والأردن، لكن هذا لا يعني أن إقامة العلاقات مع ldquo;إسرائيلrdquo; تنهي المشكلات . ويؤكد مكي أن مصر بدأت تنتبه إلى أن الطوق لن يكون في عنق الشمال وإنما سيشملها، لأن دولة جنوب السودان ستفتح ملف مياه النيل وتتحالف مع إثيوبيا وتصبح الدولة الخامسة في مفوضية مياه النيل، وبهذه الصورة ستكون دولة الجنوب مهدداً لأمن مصر القومي والاستراتيجي .
ويتوقع مراقبون أن تهبط طائرات الخطوط الجوية ldquo;الإسرائيليةrdquo; مطلع ديسمبر/ كانون الأول المقبل بمطار جوبا، لتخرج علاقة الحركة الشعبية ب ldquo;إسرائيلrdquo; إلى العلن كترجمة واقعية للعلاقات المعلنة بينهما، ويشير المراقبون إلى أن الاعتراف ldquo;الإسرائيليrdquo; بالعلاقة بحكومة الجنوب (الحركة الشعبية) وارد في كتاب من مئة صفحة، صدر في العام الماضي عن ldquo;مركز ديان لأبحاث الشرق الأوسط وإفريقياrdquo;، التابع لجامعة تل أبيب . عنوان الكتاب هو: (ldquo;إسرائيلrdquo; وحركة تحرير جنوب السودان نقطة البداية ومرحلة الانطلاق) . ومؤلفه ضابط سابق (عميد متقاعد)، تبين معلوماته أنه وثيق الصلة بدوائر القرار في المخابرات ldquo;الإسرائيليةrdquo; الموساد، اسمه موشي فرجي . وأهمية الكتاب تكمن في أمرين، أولهما أنه يشرح بالتفصيل الدور الكبير الذي قامت به المخابرات ldquo;الإسرائيليةrdquo; في مساندة حركة تحرير الجنوب، سواء على صعيد الإمداد بالسلاح والخبراء والمال، أو حشد التأييد الدبلوماسي والسياسي لمصلحتها . الأمر الثاني الذي لا يقل أهمية أو خطورة أنه يشرح على وجه الخصوص بالتفصيل أيضاً استراتيجية ldquo;إسرائيلrdquo; لإضعاف العالم العربي بوجه عام .
وتبقى ldquo;إسرائيلrdquo; واحدة من المهددات التي تضرب السودان من جنوبه المنفصل لاحقاً، لكنها تشكل الأخطر بأجندتها المعروفة وايديولوجيتها المرعبة، التي لا تراعي ذمة، وتبقى التحذيرات من الأرضية الخصبة التي ستجدها هناك، دولة ضعيفة ووليدة ستتحالف مع الشيطان لثبت للعالم مقدرتها على دارة دولتها والعيش بعيداً عن الشمال، كما يبقى الإنصات إلى الأصوات التي بدأت تعلو خلال الأسبوعين الماضيين، مشفقة من حرب ايديولوجية تنطلق شرارتها هذه المرة من جنوب السودان، بمعاونة ومساندة غربية، للنيل من العرب وعقيدتهم، ليس في الشمال فحسب، بل في كل المنطقة العربية والإفريقية المجاورة للسودان، وتظل المخاوف مبررة وفقاً لتاريخ الصراع العربي ldquo;الإسرائيليrdquo;، والذي ستستفيد ldquo;إسرائيلrdquo; هذه المرة من مقدرات وثروات أرض بكر مثل جنوب السودان، ولن تخسر شيئاً سوى جهد إدارة هذه المقدرات وتسويقها وتجييرها لمصالحها .
التعليقات