عبد الحميد الأنصاري

كانت مشكلة المواطنين المسيحيين في مجتمعاتنا، مشكلة قيود وحدود وأصبحت اليوم مشكلة بقاء ووجود! كانوا في الماضي يطالبون بحقوقهم المتساوية في quot;المواطنةquot; كما كفلتها الدساتير الوطنية، واليوم يطالبون بحماية دولية في ظل عجز الحماية المحلية. على مر التاريخ الإسلامي وفي فترات معينة عانى المسيحيون من سياسات تمييزية ظالمة، سادنتها اجتهادات فقهية لا تتفق ومنهج الإسلام في حسن معاملة أهل الكتاب، لكن هذه التمايزات استمرت في ظل الدولة الوطنية وعكست نفسها في تشريعات وقرارات تعوق حرية المسيحيين في بناء كنائسهم وفي الوصول إلى مناصب قيادية. ويكفي دلالة أن تقول quot;الجماعة الإسلاميةquot; في مصر إن quot;هناك مشكلة أقلية مسيحية في مصر لا تتمتع بحقوقها على قدم المساواةquot;. وبالأمس القريب قامت مظاهرة بالإسكندرية دعت إلى quot;مقاطعة النصارىquot;، محلاتهم وأحيائهم... ومع ذلك رفض البابا شنودة أن يرد بالإساءة وقال: quot;أدعو لكل من يشتم وأساء بالمغفرة ولن نقابل ما فعلوه بالإساءةquot;.

الأقليات الدينية التاريخية أسبق وجوداً واستيطاناً في بلاد الرافدين ووادي النيل، لكنها اليوم مستهدفة في حياتها وفي معابدها وفي منازلها وفي أولادها. نشرت صحيفة quot;الشرق الأوسطquot; مقابلة مع رب أسرة مسيحية بعد مذبحة الكنيسة وتفجير منازل المسيحيين في بغداد والموصل، وصفت فيها المراسلة مشاعر الرعب لدى العائلات المسيحية، وقالت: quot;تعيش العائلة مع هاجس القتل مثل غالبية سكان المناطق المسيحية المستهدفة، يخافون ويتوجسون من كل شيء حتى من الحديث للصحافةquot;. لكن رب هذه العائلة كان شجاعاً وقبل الحديث معها، فقال: quot;إنه يرفض مغادرة أرض أجداده، لكنه بدأ يفكر في الهجرة خوفاً على ابنه الذي يعيش في رعب من أن تتعرض مدرسته للتفجيرquot;. هل يُلام هذا الأب إذا فكر بالهجرة من وطنه؟ دعونا نكون مكانه ألا نفعل مثله؟ نجح مسلسل القتل والتفجير في تهجير الأقليات التاريخية التي استوطنت العراق منذ عصور سحيقة مثل المسيحيين -الكلدانيين، والآشوريين، السريان- الصابئة واليزيديين واليهود. وأكد تقرير صدر عن المنظمة الدولية للحكم الرشيد أن الأقليات الدينية تعيش تحت تهديد مستمر من قبل المتطرفين وأن 80 في المئة من الصابئة تركوا العراق و60 في المئة من المسيحيين رحلوا أو نزحوا إلى كردستان، وبعد أن كانوا مليوناً و400 ألف أصبحوا نصف مليون فقط، أما اليهود ففرَّوا منذ زمن كما تقلّص وجودهم في اليمن، وهكذا خدم المتطرفون إسرائيل!

دعا وزير خارجية ألمانيا بلاده إلى استقبال المسيحيين العراقيين وطالبها بأن تأخذ المبادرة ولا تنتظر قرارات الاتحاد الأوروبي، ووصف ما يتعرض له المسيحيون والأقليات الأخرى من إرهاب بـquot;العمل المنهجي المنظمquot;، قائلاً: quot;إن الحكومة العراقية ليست في وضع يؤهلها لتوفير الحماية لهمquot;. لقد عاش المسيحيون على امتداد التاريخ الإسلامي في عهد وذمة المسلمين، آمنون على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وأولادهم، وكان لهم دور بارز ونشط في الحضارة الإسلامية، فهم الذين نقلوا تراث اليونان والرومان إلى العربية -آداباً وفلسفة وعلوماً- فأتاحوا لعلماء المسلمين الإفادة منه لازدهار حضارة الإسلام، فإليهم يعود الفضل كما يقول خالد القشطيني في الحفاظ على التراث اليوناني الذي استمد منه الغرب عبر العرب نهضته، كما كان المسيحيون في العصر الحديث رواد التحرر الفكري ومنظري الدعوة القومية الأوائل. يقول إميل أمين: الآباء الدومينكان في الموصل، هم الذين أدخلوا إلى العالم العربي أول مطبعة باللغة العربية. ويضيف: المطبعة أم الكتاب وحاملة شعلة التنوير، تستتبعها ولا شك نهضة فكرية رائدة، سار في مقدمتها، مفكرون بارزون من المسيحيين العرب أمثال قسطنطين زريق وإدوارد سعيد ونقولا زيادة وغيرهم. واليوم الدولة الوطنية عاجزة عن حماية مواطنيها المسيحيين فضلاً عن ضمان المعاملة العادلة لهم، بسبب تصاعد quot;المد المتطرفquot; الذي يجتاح مجتمعاتنا ويهيئ مناخاً خصباً لترسيخ ثقافة الكراهية ضد الآخر، تسانده منابر تعليمية تلقن الناشئة كراهية المخالف الديني والمذهبي باعتبارها واجباً دينياً! وأيضاً مواقع إلكترونية وفتاوى تشحن النفوس والعقول بفكر الكراهية والمقاطعة، فتحرم على المسلم مشاركة المسيحيين أعيادهم أو تهنئتهم وتوصيه إذا سافر إلى الغرب أن يضمر الكراهية لهم، يصعد الخطيب المنبر فيجأر بالدعاء أن يهلك الله اليهود والنصارى، ولا يكتفي بذلك، فيفصِّل: اللهم احصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تبق منهم أحداً، اللهم يتِّم أطفالهم، ورمِّل نساءهم، وزلزل الأرض تحت أقدامهم! هذه هي ثقافة الكراهية بأبشع مظاهرها، والله الحكيم العادل لن يستجيب لهذا الدعاء الظالم، ولو تحقق لكان هذا الخطيب البائس أول ضحاياه، إذ لن يجد شربة ماء نقية، إنها quot;ثقافة الكراهيةquot; التي أنتجت الذين فجروا أنفسهم في البرجين وفي مترو الأنفاق والذين ارتكبوا مجزرة كنيسة quot;سيدة القيامةquot; والتي أصبحت اليوم مهجورة وأهلها يفرون وسط مخاوف من اختفائهم في العراق. إن ما تعرض له المسيحيون في العراق وغيره، دليل فشل وإخفاق لنا جميعاً كما يقول quot;بن طفلةquot;، بل فشل مناهجنا التعليمية ومنابرنا الدينية وخطابنا الإعلامي والثقافي... والتي على امتداد نصف قرن لم تستطع أن ترتقي بالإنسان العربي وتخلصه من نزعاته التعصبية والطائفية والمذهبية، إنه فشل لكل مؤتمرات حوار الأديان ولكل دعوات التسامح الديني وأوهام التعايش المشترك، وهو ينقض كل ما نتظاهر به من تلاحم الجبهة الداخلية وقوة الأخوة الوطنية.

ستذهب كافة دعوات وقف نزيف هجرة المسيحيين لأوطانهم، هباءً، ما دامت quot;ينابيع التطرفquot; تتدفق لتغذي الأرضية المجتمعية بسموم التعصب والكراهية، وما دام مفهوم quot;المواطنةquot; معطلاً، نتغنى به شعاراً خادعاً! علينا أن ندرك أن quot;التعددية الدينيةquot; نعمة ومزيّة وإثراء وبهجة، علينا أن نحمد الله وأن نحافظ عليها، وتلك مسؤوليتنا الكبرى -أولاً وأخيراً- لا مسؤولية الآخرين.