Reidar Visser - Foreign Affairs
تُعتبر إدارة أوباما المسؤول الأكبر عن هشاشة 'صفقة تشاطر السلطة' في العراق، فتمضي واشنطن الوقت في السعي وراء تفسيراتها الخاصة للسياسات العراقية بدل أن تحاول التعاطي مع الواقع، ولا تُعتبر هذه المرة هي الأولى التي تتبنى فيها واشنطن منطقاً مغلوطاً.
في منتصف شهر نوفمبر، بعد ثمانية أشهر من الجمود السياسي، اختير نوري المالكي أخيراً ليتبوأ الولاية الثانية لمنصب رئيس الوزراء في العراق، وكثُر في الغرب الحديث عن صفقة مفترضة لتشاطر السلطة ساهمت في حل هذه الأزمة، وقد صورت الروايات الأكثر تفاؤلاً الحكومة العراقية الجديدة على أنها 'حكومة وحدة وطنية' تتمتع بسلطة حقيقية مُنحت لأكبر أربعة فرق فازت في الانتخابات البرلمانية في شهر مارس: قائمة 'العراقية' العلمانية التي تميل تدريجياً نحو السنة، أكبر ائتلافين إسلاميين شيعيين (باتا اليوم مندمجين) وهما 'دولة القانون' برئاسة المالكي و'الائتلاف الوطني' بقيادة الصدر، وتحالف الأحزاب الكردية.
لكن صفقة تشاطر السلطة تبدو حتى اليوم فارغة من أي مغزى حقيقي، فما هي، على ما يظهر، إلا افتراضات من نسج خيال إدارة أوباما تُسَرّ الأحزاب الإسلامية الشيعية العراقية بالاستفاضة في الحديث عنها. فعند التأمل في توزيع المناصب المهمة في الحكومة الجديدة، نرى أن لاعباً واحداً حصل على سلطة حقيقية: نوري المالكي.
وُعدت قائمة 'العراقية'، التي فازت برئاسة المجلس النيابي (بمنصب مهم إلا أنه سلطته تبقى محدودة بسبب نفوذ نائبَي رئيس المجلس)، بمناصب قد تبقى مجرد أحلام، مثل رئاسة المجلس الوطني للسياسات الاستراتيجية المتوقع إنشاؤه. سيمنح هذا المنصب 'العراقية'، حسبما يُفترض، تأثيراً واسعاً في كل القرارات الكبرى التي تُتخذ في مجال الدفاع والأمن الداخلي والاقتصاد والطاقة، لكن المالكي وحلفاءه يتعاطون مع هذا المجلس كما لو أنه مجرد مؤسسة فكرية مهمتها الرئيسة تقديم النصح.
كذلك، تلقى الأكراد، على ما يبدو، وعوداً من المالكي بشأن مطالبهم الأساسية المتعلقة بالأراضي المتنازع عليها وربما قطاع النفط، أما بالنسبة إلى المناصب الحكومية، فلم يحصلوا حتى اليوم على أي ضمانات. فضلاً عن ذلك، أضحت الرئاسة، التي طالب بها الزعيم الكردي جلال طالباني لأسباب شخصية، منصباً محدود الصلاحيات. فيفتقر هذا المنصب الجديد إلى حق النقض، الذي تمتع به المجلس الرئاسي الانتقالي المكون من ثلاثة أعضاء، والذي انتهت صلاحيته مع انتخاب طالباني كرئيس عادي لا نواب له في الحادي عشر من نوفمبر. وهكذا، انتهت مرحلة الخمس سنوات الانتقالية التي نص عليها الدستور العراقي.
على الرغم من شوائب المجلس الوطني للسياسات الاستراتيجية، تعتبره إدارة أوباما محوراً رئيساً في صفقة تشاطر السلطة، فهو، في المقام الأول جائزة، ترضية ابتكرها صناع السياسات الأميركية لاسترضاء إياد علاوي، زعيم قائمة 'العراقية' التي فازت بالعدد الأكبر من المقاعد في الانتخابات. فلم تأخذ واشنطن طموحه بتبوء منصب رئاسة الوزراء على محمل الجد، إذ لم تتخيل أن يؤول هذا المنصب إلى أحد غير رئيس وزراء إسلامي شيعي، مثل المالكي.
غلبت على الجهود الأميركية لإنشاء هذا المجلس من البداية التمنيات ومحاولات التحايل على الإطار الدستوري العراقي، ففكر صناع السياسات الأميركيون في إعادة إحياء المجلس السياسي للأمن الوطني العراقي، لجنة غير فاعلة أُسست عام 2006 من دون أن يكون لها أي أساس قانوني (اتفق أعضاؤها في ما بينهم على طبيعة عملها الأساسية من دون الرجوع إلى البرلمان). علاوة على ذلك، تنص قوانين المجلس الداخلية على ضرورة أن تُتخذ قراراته بغالبية الثلثين، مطلب شبه مستحيل نظراً إلى أن هذه الهيئة تضم كل كبار أعضاء الحكومة العراقية الذين لطالما استصعبوا التوصل إلى اتفاق. لذلك، تُعتبر فكرة استخدام هذه المؤسسة لإرضاء طموحات العراقية غير واقعية.
لا عجب، إذن، ألا يعرب علاوي عن اهتمام كبير بتولي رئاسة هذا المجلس حين تحدثت الولايات المتحدة للمرة الأولى عن إعادة إحيائه في الصيف الماضي. بعد ذلك، فكر المسؤولون الأميركيون بمنح 'العراقية' الرئاسة، لكن هذه الخطوة أيضاً استندت إلى قراءة خاطئة للدستور العراقي والإطار القانوني. فبعد إنهاء صلاحيات المجلس الرئاسي الانتقالي المكون من ثلاثة أعضاء، باتت الرئاسة 'العراقية' منصباً رمزياً لا غير. ويستلزم تحويلها إلى منصب قوي فاعل موافقة الأغلبية الساحقة في البرلمان، فضلاً عن إجراء استفتاء شعبي. ولا شك أن نتيجة هاتين الخطوتين بعيدة كل البعد عن أن تكون مضمونة، لذلك، يعني المضي قدماً في هذه الخطة ربط عملية تشكيل الحكومة برمتها بأحداث مستقبلية مفترضة، ما يضع العراقية في موقع هش جداً، في حال قبلت تبوء الرئاسة في ظل هذه الظروف.
عارض الأكراد بشدة هذه الخطط. كذلك، تخوّفت 'العراقية' من تحركات إيران الهادفة إلى تمهيد الطريق أمام المالكي للفوز برئاسة الوزراء، نتيجة لذلك، اختار علاوي وقائمة 'العراقية'، بتشجيع من الولايات المتحدة، 'سيناريو' مختلفاً يتضمن اقتراحات افتراضية، ففضَّلا فكرة إحياء المجلس الأمني مع استبدال هذا الأخير بالمجلس الوطني للسياسات الاستراتيجية.
غير أن المشكلة الرئيسة التي رفضت الولايات المتحدة والعراقية الإقرار بها مازالت على حالها: لا يمكن للحوارات العلانية عن إنشاء مجالس أو توقيع الكتل السياسية الكبرى اتفاقات بشأن ذلك أن يلغيا الدستور العراقي والقوانين. فبغية التوصل إلى صفقة حقيقية لتشاطر السلطة، يحتاج البرلمان العراقي، على أقل تقدير، إلى سنّ قانون يحدد بوضوح سلطات المجلس المتوقع تأسيسه قبل التصويت لمنح الحكومة المقبلة الثقة.
لكن البرلمان العراقي المجزَّأ والمعطَّل لن يمرر، على الأرجح، قانوناً مماثلاً مثيراً للجدل في المستقبل القريب، ما يترك 'العراقية' من دون أي ضمان قانوني لدورها في اتفاق تشاطر السلطة. وحتى إن حدثت معجزة ومررت الجمعية الوطنية العراقية التشريعات الضرورية، فسيبقى المجلس، وفق بعض المسودات المسرّبة على الأقل، مؤسسة بالغة الضعف لا تتمتع بصلاحيات حقيقية بسبب ضرورة اتخاذ القرارات بالإجماع (أو ضرورة موافقة 80% من الأعضاء كحد أدنى). كذلك، تطول لائحة الأعضاء المقترحين لهذا المجلس، ما يجعل من نجاح علاوي أو أي زعيم آخر في قائمة 'العراقية' في تحويل رئاسته إلى منصب فاعل مهمة شبه مستحيلة.
تتحمل 'العراقية' جزءاً من اللوم على خسارتها تأثيرها لأنها اتبعت استراتيجية ضعيفة. فعندما مُنحت القيادة في الحادي عشر من نوفمبر، كان بإمكانها العمل على تمرير قانون يشرع المجلس المتوقع قبل انتخاب طالباني رئيساً وتعيينه المالكي رئيساً للوزراء، محققةً بالتالي نوعاً من التوازن في ساحة لايزال تعاونها فيها ضرورياً. ولكن بدلاً من ذلك، راح أعضاء 'العراقية' ينادون بمطالب غير ذي أهمية: فقد طالبوا بتصويت على 'تعهد' بتشريع هذا المجلس (بدل التصويت على تشريعه مباشرة). كذلك، دعوا البرلمان إلى إزالة أسماء ثلاثة أعضاء ينتمون إلى 'العراقية' من عملية اجتثاث البعث. ورغم رفض سائر أعضاء الجمعية هذه المطالب المتواضعة، مضى أسامة النجيفي، رئيس مجلس النواب الجديد المنتمي إلى 'العراقية'، قدماً في عملية انتخاب طالباني. فأدت هذه الخطوة إلى خسارة 'العراقية' جزءاً كبيراً من نفوذها الذي اكتسبته حديثاً، بما أن طالباني أوكل في الحال مهمة تشكيل الحكومة الجديدة إلى المالكي.
تُعتبر إدارة أوباما المسؤول الأكبر عن هشاشة 'صفقة تشاطر السلطة' في العراق، فتمضي واشنطن الوقت في السعي وراء تفسيراتها الخاصة للسياسات العراقية بدل أن تحاول التعاطي مع الواقع، ولا تُعتبر هذه المرة هي الأولى التي تتبنى فيها الولايات المتحدة منطقاً مغلوطاً. فقد وقعت واشنطن في الخطأ عينه حين اعتمدت خطة لنظام الحكم العراقي رعاها عضو مجلس الشيوخ آنذاك، جو بايدن (ممثل ديلاوير الديمقراطي)، عام 2007. لكن خطة بايدن للعراق، التي اتخذت شكل مجموعة من القوانين سنها مجلس الشيوخ الأميركي، انتهكت الدستور العراقي بتقسيمها البلد إلى مناطق فدرالية جديدة: فبدل الالتزام بإجراءات الفدرالية التصاعدية التي ينص عليها الدستور العراقي وقوانين الفدرالية لشهر أكتوبر عام 2006، دعت خطة بايدن إلى تسوية فدرالية 'شاملة' تُنفذ دفعة واحدة.
وكما حدث عام 2007، يعتمد نائب الرئيس بايدن، الذي يُعتبر اليوم أحد داعمي الترتيبات المقترحة، مرة أخرى على رؤيته الخاصة، متجاهلاً الدستور والقوانين العراقية، التي لا تسمح بقيام المجلس المتوقع. نتيجة لذلك، بدأت الفجوة الناجمة بين واشنطن وبغداد بالاتساع، حتى أنها تهدد بتعطيل كامل السياسة التي تعتمدها الحكومة الأميركية في تعاملها مع العراق. فتفترض إدارة أوباما أن المجلس الذي لا وجود له انتصار للدبلوماسية الاميركية وهزيمة لإيران، ولا شك أن الافتراض الأول وهمي، أما الثاني فخاطئ وخطير. فقد حاول المسؤولون الأميركيون الادعاء أن إيران أرادت استبعاد 'العراقية' من كامل المسيرة السياسية. لذلك، تشكّل مشاركتها في المجلس المتوقع إنشاؤه انتصاراً. لكن إيران شددت في مطالبها على أن يكون تحالف يرأسه الشيعة عماد الحكومة الجديدة، نتيجة لطالما دعمتها واشنطن وتنسجم مع الصفقات التي تُعقد راهناً في بغداد.
يبدو أن المالكي والقيادة في طهران استخلصا أن هذه المؤسسة الجديدة لا تأثير لها، وإذا كان تأسيس المجلس يرضي الولايات المتحدة من دون أن يكون له أي نفوذ يُذكر، فلا ضرر من إقامته كنوع من الأداء السياسي المسرحي. وهنا ينشأ سؤال مهم: كم من الوقت ستواصل الولايات المتحدة احتفالها بـ'انتصارها' الأخير في العراق بدل صياغة سياسة فاعلة طويلة الأمد؟
التعليقات