خير الله خير الله

لا تحتاج تونس الى من يدافع عنها. تونس قادرة على الدفاع عن نفسها، من داخل ومن خارج، خصوصا ان للشعب التونسي مصلحة في الدفاع عن بلده وعما تحقق في السنوات التي امتدت منذ الاستقلال في العام 1956. هذا لا يعني في اي شكل انه يمكن تجاهل ما تعرض له البلد اخيرا والتقليل من اهــــمية ما حــدث، وذلك على صعيدين.
هناك على الصعيد الاول ما يدعو الى معالجة ظاهرة البطالة بشكل جذري وعدم الاستخفاف بها. فهذه الظاهرة تعكس وجود مشكلة ذات طابع اجتماعي، تعبر عن نفسها بأشكال مختلفة تراوح بين ظاهرة العنف الذي ظهر في الملاعب الرياضية في الاشهر الاخيرة، وقد تحدث عنها الرئيس التونسي زين العابدين بن علي بنفسه حديثا.... والاتجاه نحو التطرف عن طريق الانضمام الى الحركات والاحزاب الدينية التي تعد بالجنة، في حين انها لا تستطيع توفير شيء آخر غير الكلام المعسول والوعود المستحيلة التحقيق.
في نهاية المطاف، كل ما تستطيعه الحركات والاحزاب الدينية المتطرفة التي سعت الى التسلل الى ادارات الدولة في السنوات الاخيرة من عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، هو نشر البؤس وضرب الاستقرار وقطع الطريق على كل ما من شأنه تحقيق تقدم في بلد يمتلك موارد طبيعية محدودة وتبقى ثروته الاولى والاخيرة الانسان المسلح بالعلم والانفتاح الحضاري على العالم.
اما الصعيد الآخر الذي يفترض التركيز عليه، فهو يتمثل في الحملة التي تعرضت لها تونس خلال الاحداث الاخيرة وبعدها كشفت الحملة وجود متربصين بتونس وتجربتها ورغبة في تدمير الانجازات التي تحققت اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا. فالمجتمع التونسي، حيث طبقة متوسطة حقيقية، متصالح مع نفسه. ولعلّ الانجاز الاهم الذي حققه في السنوات الخمسين الماضية يتمثل في المحافظة على مستوى التعليم من دون اي نوع من العقد، وعلى حقوق المرأة وتطوير هذه الحقوق في منطقة تمر منذ عقود عدة بظروف في غاية الصعوبة والتعقيد. تكفي العودة الى ما تعرضت له الجزائر منذ العام 1988 بسسب نمو ظاهرة التطرف وغياب الحكم الرشيد القادر على استيعاب هذه الظاهرة من جهة وما تعرض الجار الآخر لتونس وهو ليبيا من جهة اخرى. تحولت الجزائر التي كانت، ولا تزال للاسف الشديد، تتاجر بالتطرف والمتطرفين، بما في ذلك متطرفو تونس، الذين بقيت تستضيفهم حتى العام 1995، الى حقل تجارب للحركات الارهابية التي سعت الى ضرب كل ما هو حضاري وكل تجربة سياسية ذات علاقة من قريب او بعيد بالانفتاح والتقدم في منطقة شمال افريقيا. اما ليبيا، فقد بقيت طوال سنوات طويلة محاصرة. وقد ساهم الحصار الى حدّ كبير في انغلاق المجتمع فيها على نفسه وعلى نمو الحركات الارهابية التي تستخدم الدين وسيلة للتغلغل الى المجتمع الليبي والتسلل بعد ذلك من الاراضي الليبية الى دول الجوار وحتى الى ابعد من ذلك بكثير...
استطاعت تونس بفضل تحول السابع من نوفمبر 1987، تاريخ وصول زين العابدين بن علي الى الرئاسة، حماية نفسها من الاخطار الداخلية والخارجية والمحافظة في الوقت ذاته على ما تحقق في عهد بورقيبة. اكثر من ذلك، حصل تطوير للتجربة التي كانت في مرحلة معينة مهددة بالانهيار.
جرت محاولة لاستيعاب التطرف والمتطرفين... الى ان تبيـــــن ان لا وجود لمتطرف معتدل يتباهى بانه يـــتذوق الموسيقى وآخر لا يؤمن سوى بالتفجيرات والعنف وحتى الذبح. فالمتطرف الذي يستغلّ الدين لتحقيق مآربه هو الشخص نفسه، ايا يكن شكل القناع الذي يستخدمه في ظرف معيّن. عن هؤلاء المتطرفين الذين سعوا الى استغلال حالة اجتماعية في محافظة سيدي بوزيد، تحدّث الرئيس التونسي الذي امتلك ما يكـــــفي من الشجاعة لتسمية الاشياء باسمائها عنـــدما اتهم laquo;اقلية من المتطرفين والمحرضين والمأجورين بالتســـبب باعــــمال العنفraquo;.
هناك بكل بساطة تشريح للوضع التونسي يصدر عن المرجع الاعلى في البلد يتضمن اعترافا بوجود مشكلة ذات علاقة بالبطالة. ولكن، هناك ايضا فهم تام للمخاطر التي تتعرض لها تونس واستعداد لمواجهة الحاقدين على التجربة الطليعية التي امنت مستقبلا افضل لمجمل افراد الشعب التونسي، بغض النظر عن بعض السلبيات. الواضح ان ذلك لا يكون عن طريق اي نوع من التنازلات في اي مجال كان...
الاكيد انها ليست المرة الاولى والاخيرة التي تمر فيها تونس بصعوبات، هي التي مرت في مرحلة معينة ايام بورقيبة بما سُمّي laquo;ثورة الخبزraquo;. لكن تونس ستكون قادرة مجددا على تجاوز الصعوبات بفضل الطبقة المتوسطة اولا وبرغبة التونسيين، باكثريتهم الساحقة ثانيا واخيرا، في تفادي السقوط في فخ التطرف والتخريب الذي لا يصب الاّ في خدمة المتاجرين بالدين... وما اكثر هؤلاء في المنطقة!
هذا لا يعني من دون ادنى شك ان التجربة التونسية لا تحتاج الى اصلاحات، على صعد مختلفة بدءا بتطوير الحياة السياسية والحزبية والاعلام الرسمي والوطني عموما واحترام الحريات بشكل عام. لكن الواضح، ان ذلك ليس ممكنا تحت الضغوط التي يسعى المتطرفون في الداخل والخارج الى ممارستها على تونس التي لا تزال الى اشعار آخر تجربة ناجحة بشهادة الارقام... وليس استنادا الى ما يتردد في الخطب الرنانة للاسلاميين التي لا معنى لها في معظم الاحيان، خصوصا في منطقتنا العربية وصولا الى ما هو ابعد منها... الى ايران مثلا.