رضوان السيد

خَطَرَ لشيمون بيريز رئيس الكيان الصهيوني أن يخاطب سلام فيّاض رئيس وزراء السلطة الفلسطينية بأنه: quot;بن غوريون الفلسطينيquot;! وبيريز رؤيويُّ بارز له إنجازات في تاريخ الكيان منذ أيام بن غوريون الذي قاد حقبة تأسيس الدولة بين عامي 1945 و1960. فعندما كان بيريز مديراً لوزارة الحرب في الكيان، قاد مفاوضات مع فرنسا أدّت إلى بناء القنبلة النووية الإسرائيلية. وفي النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي، أصدر كتابه الشهير quot;الحل الاقتصادي للنزاع العربي-الإسرائيليquot;. لكنه بين هذا وذاك، سلك سلوكاً احتيالياً في السياسة تجاه زملائه في حزب quot;العملquot;، وتجاه الاتفاقيات مع العرب، وتجاه الأميركيين والأوروبيين أيضاً. وما نجح بعد بن غوريون في الحصول على المناصب -رئاسة الوزارة ورئاسة الدولة- إلا على حساب زملائه، خاصة رابين وباراك. وبخلاف رؤساء الدولة الآخرين الذين لا يملكون دستورياً أي صلاحيات فاعلة، بقي بيريز ذا نفوذ معتبر في السياسات الداخلية، وفي العلاقات الخارجية. وذلك لأنه كما قال في كتابه quot;الشرق الأوسط الجديدquot;، يعتبر السياسة فنَّ الممكن. والممكن عنده quot;تعديد الخياراتquot; أو فتح آفاق جديدة، لا يُحسنُها العسكريون ولا العقائديون أو لا يفكرون فيها. ويبدو أن ملاحظته عن سلام فيّاض، ما كان المقصود بها الاحتيال أو الامتداح، بقدر ما كان يقصد أن الرجل يُشبهُهُ كما يُشبهُ هو بن غوريون لجهة التفكير خارج الأطُر التقليدية للسياسات الحزبية والعقائدية. فسلام فيّاض موظف تقنيُّ وماليُّ دقيق، وما كان فتحاوياً، فضلاً عن أن يميل لـquot;حماسquot;. وعدوانية الفتحاويين ضده لا تقل عن عدوانية الحماسيين. إنما الذي أثار إعجاب بيريز به أنه قفز فوق الجميع في عام 2009 ليقول إنه ليس معنياً بحصول المفاوضات أو عدم حصولها، إنما همُّه إنشاء المؤسسات الفلسطينية وتطويرها، بحيث تكون الدولة جاهزة للإعلان عام 2012 بمفاوضات أو بدون مفاوضات! وقد حظيت تلك الفكرة بترحيب الأوروبيين، كما حُظيت سراً بترحيب الولايات المتحدة واليابان. وقد انزعج منها الفتحاويون وأقطاب منظمة التحرير، لأنها تجاوزتهم بينما المفروض أن تكون المنظمة هي التي تضعُ الاستراتيجية وتؤمن مستلزمات إنفاذها. وانزعجت منه quot;حماسquot; لأنها تُسِّلم بالواقع ولا تترك أملاً بالتحرير. وانزعج منها أخيراً الإسرائيليون لأنها تفرض حلاً منفرداً، متجاوزة إعاقات إسرائيل لبدء التفاوض على مسائل الحل النهائي.
ويتفق بيريز وفياض في الظاهر على أنه لا علاقة قوية بين السياسة والأخلاق. وذلك لأن الاعتبارات الأخلاقية تُصْغي لمسائل الواجب، والتي قد لا تتلاءم مع متطلبات الواقع وإمكاناته. لكن في حين يتمسكُّ بيريز بفن الممكن، يؤثرُ فياض الحديث عن quot;إدراك الضرورةquot; أو الضرورات. ولهذا الاختلاف علاقة بموقع ودور كل من الرجلين. فبيريز رأسٌ لكيان قائم، بينما يهدف فلسطينيو منظمة التحرير إلى quot;إقامة الدولة المستقلةquot; التي لا يملكونها حتى الآن. فالضرورة عند الفلسطينيين هي الدولة، بينما تدور خيارات الإسرائيليين حول أفضل الوسائل للحفاظ على ما اكتسبوه.

ما الفرق بين الواجب والضرورة؟ أخلاق الواجب لدى الأفراد عند الفيلسوف الألماني quot;كانطquot;، تتأسس على البداهة العقلية والمنطقية. ولذلك فإنها تتحول إلى دوافع قوية لدى quot;العقل النظريquot; تؤثر في quot;العقل العمليquot; الذي تشارك في توجيهه عوامل أخرى تتصل مرة بالواقع، ومرة أخرى بالملاءمة. أما quot;الضرورةquot; فهي نظرٌ في النهايات أو الأهداف البعيدة. ولأن الماركسيين يربطونها بحتميات تاريخية، تبدو quot;الخيارات الممكنةquot; بشأنها ضئيلة أو معدومة. لكن هذا الاستنتاج غير صحيح أو غير دقيق. فالهدف الموضوع منذ أواخر الثمانينيات للمشروع الوطني الفلسطيني هو إقامة الدولة على جزء من فلسطين هو غزة والضفة والقدس (أو ما عرف بحدود عام 1967). ولبلوغ ذلك الهدف سلك الفلسطينيون مسالك متعددة منها الانتفاضات الشعبية ومنها العمل المسلّح، ومنها التفاوض. وبعد أوسلو ما عاد العمل المسلح ممكناً وإن ظل مطروحاً من جانب فصائل عديدة. وبقيت الإمكانيتان الأخريان: الانتفاضة، واستئناف التفاوض. ولأن الخيار quot;الانتفاضيquot; مكلفٌ جداً كما ظهر من نتائج الانتفاضة الثانية، ما بقي غير التفاوض لبلوغ الضرورة أو الهدف النهائي: إقامة الدولة. وعندما بدا أن الممكنات ضاقت كثيراً، اجترح فياض إمكاناً جديداً لبلوغ الهدف الجوهريّ: الإعداد لإقامة الدولة بغضّ النظر عن الإعاقات التي فرضتها حقبة شارون ومَنْ جاؤوا بعده. وهكذا فإن quot;الضرورةquot; لا تقلّل من الإمكانيات، ولا تخضعُ في طريقة الوصول إليها على الأقل للحتميات. وهذا أمر يختلف عليه العرب. فالفلسطينيون، وبينهم التحريري وغير التحريري، يقولون بالنضال وأعلى سقوفه العمل المسلح وأدناها الانتفاضة الشعبية. والعرب اعتادوا أخذ سبيلين: إما الكفاح المسلح المحرِّر الذي تحررت عن طريقه غزة (هل تحررت؟)، وإما التفاوض لبلوغ حلِّ الدولتين لدى الذين يقولون منهم بالقرارين الدوليين 242 و338. ومع أن الإسلاميين يقولون ظاهراً بالكفاح المسلَّح، فهم لا يشاركون الفلسطينيين في هدف الوصول إلى الدولة (على أراضي عام 1967)، ففكرة هؤلاء أنه ينبغي الاستمرار في الجهاد لحين زوال الكيان الصهيوني، وبعد ذلك لكل حادث حديث! وهذا أمر لا يتعلقُّ بالواجب الأخلاقي، بل بالفرض الديني من وجهة نظرهم. وذلك شأن آخر ليس هنا مجال البحث في ضروراته أو واجباته أو ممكناته.

فلْنعُدْ إلى أساس المسألة: الواجب شأن يتعلق بالدوافع والبواعث، ويتعلق بالطبع بصحة المشروع وسلامته الأخلاقية. بينما تتمثل الضرورة في الهدف النهائي، ويجترحُ أصحابها الوسائل والأدوات للوصول إليها. ولذا فهناك مشترك بينهما يتمثَّلُ في اعتقاد الطرفين أن المشروع سليم وصحيح. إنما صاحب الواجب لا يهتم بالإمكان العملي، بينما يهتم فيلسوف الضرورة بالأمرين، وإن حصر quot;الإمكانquot; في الوسائل والأدوات. على أن المفصلَ في الأمرين أو في العلاقة بالأخلاق، هو الحُكْمُ على الهدف النهائي بالأخلاقية من عدمها. فإذا كانت إقامة الدولة في وعي النخب الفلسطينية في هذه المرحلة ضرورة، فهل هي أخلاقية؟

هناك اليوم نحو أربعة ملايين فلسطيني تحت الاحتلال والحصار. وهدف أهل الواجب والضرورة معاً بلوغ هوية سياسية جامعة وحامية لهؤلاء، تكون أيضاً منارة هادية وانتماءً للملايين الأربعة الأخرى خارج فلسطين. ولا شك أن هذا هدف أخلاقي من طراز رفيع. يُعطي سموق الهدف وأخلاقيته الوسائل والأدوات (التفاوض أو إقامة المؤسسات الضامنة والحامية) صبغة أخلاقية أيضاً، لكنها إنما تكتسب شرعيتها الأخلاقية من أخلاقية الهدف المتمثل في إقامة الدولة. وهكذا تتابع الأحكام الأخلاقية -السياسية. فهناك ضرورة quot;أخلاقيةquot; في إقامة الدولة للشعب الفلسطيني، وهذه الضرورة أدركها العقل السياسي الفلسطيني والعربي وعمِل عليها عملاً واعياً لأكثر من عقدين. وإذا كان العقل العملي الكانطي يأخذ quot;المُلاءمةquot; في اعتباره، فلا شك أن هذا الشرط يُعطي الهدف أرجحية، ويعطي في الوقت نفسه الإمكانيات أو الوسائل الأكثر ملاءمة شرعية أكبر وأكثر.

أراد بيريز أن يقول إن بن غوريون أنشأ الدولة بطرائق عملية، وquot;سُموُّ الهدفquot; من وجهة نظره سوَّغ كل شيء آخر! وبذلك فإنه يفترض انفكاكاً بين الغاية والوسيلة، أو بين السياسة والأخلاق. والجامع بين بن غوريون وفياض هو الهدف والطريقة العملية لتحقيقه. لكن في حالة بن غوريون فإن الهدف كان غير شرعي لأنه على أرض الغير وعلى حساب وجوده ومصالحه، أما في حالة فياض ومُشايعيه، فالهدف مشروع وأخلاقي، وكذلك الأمر مع الوسائل والطرائق، لأنها الأكثر ملاءمة، والأقل خسائر وتكاليف على الشعب الفلسطيني.