عبدالله الشايجي
بين الذكرى التاسعة والأربعين للاستقلال الناجز باستعادة السيادة الكاملة من الحماية البريطانية، وبين الذكرى التاسعة عشرة على التحرير من الاحتلال، مساحة كبيرة للتفكير والتأمل. فاستقلالنا أتى بعد المطالبة بإنهاء اتفاقية حماية من الصراعات والإمبراطوريات المتنافسة في منطقتنا في القرن التاسع عشر في العام 1899 في ظل حكم الشيخ مبارك الكبير. وطلب الشيخ عبدالله السالم بإلغاء الاتفاقية في 19 يونيو 1961.
أما تحرير الكويت من الاحتلال العراقي، فإنه أتى عن طريق القوة، وعاصفة الصحراء، وتحالف دولي تحت غطاء الشرعية الدولية، لطرد قوات صدام حسين التي احتلت واعتدت على دولة شقيقة وجارة في خرق لجميع الشرائع والقوانين. ولا يبدو أن تعاقب السنين على العدوان والاحتلال والتحرير، بما تركه من مرارة وآلام حاضرة في الذاكرة الجماعية للكويتيين وللعرب معاً، وإن خفف عامل الزمن من وقع الذكرى ومرارة الألم، خفف من فداحة وفظاعة الخطيئة ووطأة الجرم بحق الكويت. وفي المجمل، فإن الكويت تحتفل بتحريرها واستعادة سيادتها مرتين في مفارقة بدلالات لا يمكن تجاهلها. المؤلم أن كارثة الغزو والاحتلال العراقي لدولة الكويت، كان أشبه بالزلزال بتداعياته، التي لم تقتصر على الكويت، ولكنها شملت بتداعيات مأساوية امتدت من الواقع الكويتي-العراقي إلى البعد العربي.. في تكريس لواقع جديد أسهم في المزيد من التفتيت والتشرذم والتبعية العربية، مدشناً لعصر من الوهن والتراجع والتآكل العربي.. ما سمح لقوى كبرى من خارج إقليمنا، ومن داخله، لملء الفراغ الإستراتيجي والأمني الذي نجم عن خروج العراق من معادلة الأمن الخليجي بتداعيات مستمرة إلى اليوم.
بعد تسعة عشر عاماً من تحرير الكويت، تبقى الهواجس والمظالم والمخاوف عند الطرفين ماثلة وحية عند الطرفين. وهناك حاجة لمواجهة جادة وطمأنة لتأسيس علاقة لا تغرق في الماضي الذي يكبلها ويمنعها من أن تنطلق نحو مستقبل التنمية والشراكة. وهناك قضايا للكويت من ملف الشهداء والأسرى والحدود والتعويضات والديون والمناهج والتبعية بحاجة إلى معالجة جذرية لتطمئننا إلى نوايا النظام العراقي.
نستذكر اليوم شهداءنا الذين سقطوا مضرجين بدمائهم الطاهرة التي أريقت على أرض الوطن، أو في الأسر، والذين دفعوا حياتهم ثمناً للصمود والتصدي. والمؤلم أنهم استشهدوا على يد قوات عربية. وحسب إحصائيات مكتب الشهيد فقد بلغ عدد الشهداء الكويتيين 1047 شهيداً. أما مجمل عدد الشهداء فبلغ 1297 شهيداً منهم 1210 من الذكور أو أكثر من 90 %. وكان عدد العسكريين من الشهداء 669 شهيداً. واللافت أن حوالي ثلثي الشهداء كانوا من الشباب لشريحة العمر من 16 إلى 39 عاماً. أما عن الأسرى فقد تم التعرف إلى بقايا 236 كويتياً فيما لايزال 369 أسيراً كويتياً مجهولي المصير.
بعد تسعة عشر عاماً من تحرير الكويت، لايزال المشهد كما كان ولم يتغير كثيراً. صحيح هناك علاقات دبلوماسية وإعادة فتح السفارة الكويتية في المنطقة الحرة في بغداد، وإرسال سفير واستمرار المشاحنات بين حين وآخر، حول الأمور العالقة من رفات الشهداء، ووضع الأسرى، والتعويضات، والديون، والحدود والفصل السابع في استمرار لغياب الثقة الذي كان من المفترض أن نكون قد فرغنا منها وضمدنا الجراح وتخطينا الحاجز النفسي.
ولكن بعد كل تلك السنوات لانزال نراوح مكاننا بين الأمل والقلق، وبين الماضي بكل مآسيه، والمستقبل بكل أوجاعه، والمستقبل بكل قلقه. وهناك استمرار لتجليات ورواسب تلك الكارثة التي نبقى نعيش في كنفها حتى بعد سنوات من رحيل مسببها ومهندسها ومرتكبها، أي صدام حسين. منها الاعتماد على الأمن المستورد والتسلح والعسكرة وسباق التسلح وغياب توازن القوى والخلل في ميزان القوى الذي يسمح بمغامرات ومشاريع القوى الكبيرة من مشروع إيران الطموح، وهوس إسرائيل بالتفرد بالاحتكار النووي، ومنع الآخرين من توازن الرعب النووي.
ويبقى القلق من العراق، وهو يتوجه لانتخابات أخرى في الأسبوع المقبل، وتبقى الخشية أن هذه الانتخابات لن تخرج العراق من دوامة العنف المتكررة، والتي قد تفتت العراق قيد التشكيل لدولة عاجزة ومفككة على خطوط الصدع الطائفي والعرقي والمذهبي، وسط صراعات الداخل وتدخلات الخارج، ما يبقينا في الكويت والمنطقة في وضع قلق. وسط مخاوف من تصدير الكثير من مشاكل ومخاض العراق للمنطقة، بخاصة مع تسارع وتيرة الانسحاب العسكري الأميركي خلال الأشهر المقبلة.
وماذا عن الدروس والعبر من الغزو والاحتلال العراقي وتحرير الكويت؟ لانزال في الكويت ودول مجلس التعاون الخليجي نعاني من عدم القدرة على التعامل بشكل فعال وإستراتيجي مع المخاطر الإقليمية بعد 31 عاماً من قيام المجلس، وبعد 20 عاماً على كارثة احتلال الكويت. لم ننجح في تشكيل قوة إقليمية مؤثرة توازن القوى الإقليمية الكبيرة في المنطقة.
بعد كل تلك السنوات نرى المشهد الإقليمي وقد تغير، وانقسمنا كعرب بألم إلى مجموعة المعتدلين ومجموعة الممانعين. ويزور عواصمنا ضيوف كبار محملين بأفكار ونصائح وتحذيرات، ويعرضون علينا مظلات أمنية وصفقات أسلحة.. ولكننا لا نشعر بالأمن والاستقرار. وتبرز إيران بمشروعها وخططها وطموحها وحلفائها وبرنامجها النووي كقوة إقليمية. ويجتمع رئيسها مع الرئيس السوري قبل أيام في قلب دمشق في تحد ورفض لمن يطالب بابتعاد دمشق عن طهران. وفي تشكيل لمحور ممانع لا يساعد على تقريب وجهات النظر بين المعسكرين.
تبقى الثوابت الكويتية تجاه العراق هو laquo;عراق آمن ومستقر هو ضمانة لأمن واستقرار الكويت والمنطقةraquo;. وكان معبراً ما ذكره نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية الكويتي الدكتور محمد الصباح على أهمية الانتخابات القادمة، وتمنى laquo;أن تنتج الفكر المنفتح في العراق الجديد المسالم الملتزم بالقانون الدولي والشرعية الدولية، وأن يكون جزءاً أساسياً من منظومة الأمن الإقليمي العربي.. وأن يخرج العراق أقوى مما هو عليهraquo;.
على العراق طمأنة الكويت وما تسديد العراق 27 مليار دولار من قيمة التعويضات، منها 24 ملياراً للكويت مع بقاء 16 ملياراً قيمة الديون المتبقية للكويت إلا خطوة في بناء الثقة، ولكن ليست كافية. إن غياب عوامل الثقة بين الكويت والعراق وعدم تحقيق مصالحة حقيقية بين القوى العراقية المتناحرة في الداخل العراقي، بخاصة بعد الانتخابات المقبلة لن يؤسس للمستقبل الواعد. وبالتالي سيكون من الصعب طي صفحة الماضي والهواجس بيننا، ما يبقي المراوحة غير المجدية، لنعود في كل عام لاجترار مآسي وآلام تداعيات الخطيئة المستمرة التي لم تنته برحيل مرتكبها.
التعليقات