أحمد شهاب

تذهب القراءة الفاحصة لأهم الأسباب التي تقف وراء تراجع الاستقرار السياسي والاجتماعي في دول الخليج العربي، والعلة الكامنة خلف استمرار التوترات بين الفئات الاجتماعية بمختلف توجهاتها واهتماماتها، إلى غياب منظومة القيم والمعايير التي تضبط العلاقة ما بين الجهات والأفراد، وتنظم مسيرة المجتمع، وتحدد مساراته الراهنة والمستقبلية.
وتعبر منظومة القيم والمعايير عن الهوية الكلية التي تجمع ما بين المواطنين وتنظم علاقاتهم بعضهم ببعض من جهة، وبين السلطة القائمة من جهة أخرى، فإذا انفرطت منظومة القيم والمعايير، تنفرط الهوية الكلية بشكل تلقائي، وتتخلق حالة فراغ واسعة تسمح بتفجر المشاكل والأزمات بصورة دائمة، وتربك نمط العلاقات داخل المجتمع.
يُفسر ذلك مثلا عدم قدرة أي فريق سياسي أو اجتماعي على التعبير عن الهم الوطني العام، في الغالب فإن كل فريق يتمثل همومه الخاصة فقط، وينعزل عن باقي الهموم، أو حتى لا يراها جديرة بالملاحظة. على الرغم من أن مساحات الالتقاء، إذا أسقطنا متواليات التجاذب المذهبي والقبلي، تصبح واسعة ومديدة، وهي بحد ذاتها يمكن أن تمثل قاعدة للعمل المشترك، والتعايش السلمي، والتفاهم الوطني.
انفراط الهوية الكلية بدوره يؤدي إلى عجز المجتمع بنخبه السياسية، وفئاته الفاعلة اجتماعيا، عن تصور الدولة، فالدولة بحد ذاتها تصبح محلا للتساؤل: من تٌمثل؟ وعن ماذا تُعبر؟ وماذا تستهدف؟ فمنظومة القيم ليست نظرية فكرية مجردة عن حركة الواقع وتفاعلاته المستمرة، وإنما ضرورة لضمان حفظ المصالح العامة، وحفظ النظام الاجتماعي، وترسية آليات العمل المتفق عليها للوصول إلى الأهداف المشتركة.
وتحيل وجهة النظر هذه حالة ارتهان النُّخب السياسية والفئات الاجتماعية المختلفة إلى الخارج، بوصفها محاولة تعويضية، تستهدف الحصول على منظومات بديلة من شأنها تزويد الداخل الخليجي بنماذج عمل جاهزة، تسد من خلالها مساحات الفراغ الوطني، وتُعيد تنظيم مسيرة المجتمع وفق قواعد واضحة تؤسس لآليات عمل حداثوية، وأدوات تفاهم داخلي جديدة.
وهو ما يمكن تسميته مجازا بالبحث الواعي، أو غير الواعي عن التبعية، فالشعور بالخواء الثقافي، وبأن منطقة ومجتمعات الخليج لا تمتلك منظومة قيم مشتركة، وتفتقر إلى معايير تنظم العلاقة داخل الجسد الخليجي، يدفع الفئات الاجتماعية إلى البحث عن مرجعيات خارجية بديلة، تُعيد حالة التوازن إلى الإجماع الوطني، وتعزز الأمل بإمكانية التقدم في ظل التحديات العولمية المتصاعدة.
وتكرست هذه القناعة مع الفشل الذريع الذي أصيبت به مشاريع النهضة العربية، وتساقط شعارات القومية، على الرغم من الزخم الهائل الذي حظيت به في دول الخليج. وفي المقابل تبدت عدم قدرة الإسلاميين على الإحلال كبديل مقنع بنظريات استيعابية، مع ما رافق المشروع الإسلامي من زخم شعبي هائل، وتحول كلا المشروعين من صفتهما المأمولة كمشروعين عامين يصبان في خدمة المصلحة العامة وترسيخ النظام المدني، إلى مشاريع متنازعة فيما بينها، تُركز على صناعة الأشخاص لا الأهداف، والبحث عن المصالح الخاصة لا صياغة المشاريع العامة.
وفي كلتا التجربتين تقدم الزعيم الوطني/ الحزبي، والقائد الديني/ المذهبي، كمُخلِّص مُلهم يتجاوز حدود الزمان والمكان، ويتلخص في شخصه كل الحضور الوطني والأفق الديني، وتتعلق به الآمال والتطلعات، فآراؤه وحدها هي القادرة على الارتقاء بالاجتماع الوطني والإنساني، ونظراته هي الحق الذي لا يتخلله الباطل، فهو صناعة تكاد تكون فوق بشرية، أو استثنائية على أقل تقدير.
انشغلنا بتضخيم الأشخاص، فضاعت القيم والمعايير، وتركز الاهتمام على ما يريده الزعيم والقائد، فانزوت الأحلام الجماعية جانبا، وهي في الغالب شخصيات مصطنعة، لا تملك أكثر مما يملك الناس، لكنها صعدت على ظهور الناس، وتعملقت على وقع حالة الاستغفال التي عمت مجتمعاتنا العربية دونما استثناء، وحاجتها الماسة إلى قيادة تخرجها من حالة الركود والهزيمة، أو تأخذ بيدها إلى مرحلة جديدة لا يعرف أحد حتى الآن ما هي ملامحها، أو أبعادها، وهي على كل حال لم تكن في مستوى مواكبة التغيرات والتحولات الكبرى في المنطقة.
فشلت النخب القيادية التي أنتجتها مجتمعاتنا خلال ربع قرن في تكوين رؤية موحدة تنتظم من خلالها حركة المجتمع، وتتكامل جهود أبنائه، ولم تكن في أغلب المفاصل التاريخية التي مرت بها المنطقة على مستوى الحدث، وعندما تبرز قيادات، أو نخب قيادية - فكرية، في بعض الفترات، يتملكها هذا الهم، وتتحرك نحو صوغ نظرية متكاملة في هذا الميدان، تتعرض للتهميش، وتتم محاربتها، ويفرض عليها طوق العزلة، ويُقدم عليها غيرها.
فلا النخبة التي يعول عليها أسهمت في بناء منظومة للقيم والمعايير في المجتمع الخليجي، ولا المجتمع بمؤسساته وفئاته، استطاع أن يسهم في إخراج المنطقة الخليجية من سيرها المنظم نحو العزلة، ولا قيام الدولة أسهم في ترسيخ الهوية الجامعة، إذ يبدو المشهد الراهن في الخليج واضحا للعيان، فلا رؤية مشتركة، ولا أهداف كبرى، ولا غايات واضحة، ولا أساليب عمل متفق عليها، بل كل ما هناك مجموعة من البرامج والمبادرات العامة وغير المكتملة، وهو ما يُحمِّل المفكرين في المنطقة مسؤولية مضاعفة في ميدان تعزيز الأمل بالمستقبل.