محمد السعيد إدريس
في الوقت الذي طغى فيه السباق الانتخابي الماراثوني بين ائتلاف laquo;دولة القانونraquo;، برئاسة نوري المالكي رئيس الحكومة العراقية، و laquo;القائمة العراقيةraquo; برئاسة إياد علاّوي الرئيس الأسبق للحكومة العراقية، على معالم المشهد السياسي العراقي، جاءت مفاجأة الرئيس الأميركي باراك أوباما بتجديد التزامه بسياسة الحوار مع إيران شرط الوفاء بالتزاماتها الدولية. مفاجأة أوباما هذه التي جاءت عبر رسالة للقيادة وللشعب في إيران تحمل التهنئة بعيد النوروز لم تكن بعيدة بأي حال من الأحوال عن معالم المشهد السياسي العراقي التي جاءت لتضع إيران والولايات المتحدة وجهاً لوجه أمام الخيارات الصعبة بعد فشل رهاناتهما المعلنة في تلك الانتخابات.
الولايات المتحدة راهنت على إياد علاّوي وتحالفه الانتخابي، ودعمت بعض الدول العربية الصديقة لواشنطن هذا الخيار، حيث جرى استقباله في أكثر من دولة عربية في حين رفضت بعضها استقبال منافسه القوي نوري المالكي الذي تورط في ممارسات عدائية خاصة ضد سورية والمملكة العربية السعودية.
أما إيران التي كانت ومازالت حريصة على ألا تورط نفسها في سياسة تمييزية بين حلفائها من الائتلافات الشيعية المتنافسة بعد أن فشلت في دمجها في ائتلاف انتخابي موحد، وبالذات دمج ائتلاف دولة القانون في الائتلاف الوطني العراقي، حرصاً منها على أن تكون هي المنتصرة في النهاية بفوز هذه الائتلافات، فإنها أبدت تأييداً لنوري المالكي وائتلافه الانتخابي laquo;دولة القانونraquo; ضد ائتلاف إياد علاّوي laquo;القائمة العراقيةraquo; وليس ضد الائتلاف الشيعي الآخر laquo;الائتلاف الوطني العراقيraquo;.
هذا الموقف كانت تراقبه واشنطن بقلق بالغ دفع الجنرال راي أوديرنو قائد القوات الأميركية في العراق إلى كشف laquo;معلومات استخباراتيةraquo; تؤكد التدخل الإيراني في عملية الانتخابات العراقية، ركزت على التمويل والدعم الإيراني لبعض الأحزاب العراقية، إضافة إلى كشف العلاقة بين أحمد الجلبي رئيس هيئة laquo;المساءلة والعدالةraquo; وإيران، خاصة لقاءاته مع كل من قاسم سليماني قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني ومنوشهر متكي وزير الخارجية الإيراني.
المعلومات التي قدمها الجنرال أوديرنو شملت التدخل السياسي والمالي، والوقوف وراء حملة اجتثاث البعث التي أدت إلى إقصاء عدد كبير من المرشحين أبرزهم من السنة، ومطاردة واعتقال عدد كبير من النشطاء السياسيين تحت دعوى اجتثاث البعث، والتي جاءت متوافقة مع تصريحات الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد بضرورة العمل من أجل عدم عودة البعثيين إلى الحكم في العراق.
هذا الرصد الأميركي للسياسات والممارسات الإيرانية في العراق لم يختلف كثيراً عما كشفته ردود فعل الصحافة الإيرانية على النتائج الأولية للانتخابات العراقية التي أظهرت تفوق كل من ائتلاف نوري المالكي والائتلاف الوطني العراقي، وقبل أن يحدث إياد علاّوي مفاجأته بالتفوق على نوري المالكي وتبادل المراكز معه بشكل متتالٍ على مدى الأيام الأخيرة من فرز صناديق الاقتراع وبعد فرز حوالي 93 % من إجمالي الأصوات.
استباق إيراني للنتائج
فقد تعجلت الصحف الإيرانية بالحديث عن laquo;التقدم الكاسحraquo; لائتلاف laquo;دولة القانونraquo; برئاسة نوري المالكي وlaquo;الائتلاف الوطني العراقيraquo; برئاسة عمار الحكيم، ووصف هذا التقدم بـ laquo;الانتصار العظيمraquo;، كما تعجلت في حصر رئاسة الحكومة العراقية الجديدة بين نوري المالكي أو إبراهيم الجعفري (الائتلاف الوطني العراقي)، لكن الأهم من ذلك أنها أسرفت في الحديث عن laquo;أين ذهبت الأموال السعوديةraquo; واتهمت المملكة بدعم شخصيات علمانية وقريبة من التوجهات البعثية أمثال طارق الهاشمي وإياد علاّوي وإياد جمال الدين وجواد البولاني، ووصفت ذلك بأنه laquo;رهان على الخاسرينraquo;.
هذا التعجل بقدر ما كشف عن سوء تقدير إيراني لحقيقة المعركة الانتخابية التي جعلت كل هؤلاء على رأس الرابحين في الانتخابات، بقدر ما كشفت عن مدى التحيز الإيراني للفريق الآخر والرهان عليه لكسب المعركة الانتخابية. لكن إذا كانت الانتخابات العراقية قد كشفت خطأ أو فشل الرهانات الإيرانية، فإنها أكدت أيضاً ضعف الرهان الأميركي، حيث جاءت الانتخابات بصورة أخرى ومعادلة أخرى بين إيران وأميركا أقرب ما تكون إلى معادلة laquo;لا غالب ولا مغلوبraquo;. فأيا كان الفائز في الانتخابات، قائمة إياد علاّوي أم قائمة نوري المالكي، فإن الفائز لن يكون في وضع أفضل من المغلوب، نظراً لتعقد حسابات النتائج وصعوبة الخيارات المتاحة لتشكيل الحكومة أمام الائتلافات الثلاثة الكبيرة: laquo;دولة القانونraquo; وlaquo;القائمة العراقيةraquo; وlaquo;الائتلاف الوطني العراقيraquo;، وربما يكون وضع التحالف الكردستاني أفضل نسبياً، لكن الأكراد هم أيضاً باتوا أسرى معركة التحالفات التي يجري التسابق حولها بين كل القوائم الانتخابية بما فيها القوائم الصغيرة.
الأكثر من ذلك أن التنافس الحاد بين الائتلافات والكتل الانتخابية لتشكيل تحالفات حكومية ربما يؤدي إلى تفكك هذه الائتلافات وانفراطها تحت ضغوط الإغراءات والمزايا التي يمكن أن تحصل عليها مجموعات أو أفراد من هذه الائتلافات إذا ما تركت ائتلافها وذهبت إلى ائتلاف آخر قد يفوز بالتشكيل الحكومي في ظل موقف شديد التعقيد بسبب فشل أي من الائتلافات الانتخابية في الفوز بما يكفي من الأصوات كي تستطيع تشكيل الحكومة بمفرده أو بالتحالف مع قائمة واحدة أخرى، كما أن التنافس الحاد بين الكتل والائتلافات يمكن أن يفاقم الصراع السياسي بينها ويطيل أمد أزمة تشكيل الحكومة، وبالتالي تجديد فرص عودة العنف في ظل تهديدات حقيقية من أبو عمر البغدادي زعيم ما يسمى بـ laquo;دولة العراق الإسلاميةraquo; باستئناف ما وصفه بـ laquo;حملة عسكرية منسقة في بغداد وعموم العراق لكسر صنم الديمقراطية والانتخابات الشركية المنبثقة عنهاraquo;.
الحكومة بين الانشقاقات والتحالفات
هذه التعقيدات تحصر احتمالات التشكيل الحكومي الجديد في ثلاثة مسالك، تجمع بين التحالف والانشقاق هي، أولاً: تشكيل حكومة أغلبية تجمع إما ائتلاف laquo;دولة القانونraquo; مع laquo;الائتلاف الوطني العراقيraquo; وlaquo;التحالف الكردستانيraquo; شرط ألا يكون نوري المالكي رئيساً حسب مطالب التيار الصدري الذي يرفض أن يكون المالكي على رأس الحكومة الجديدة خاصة بعد أن نجح الصدريون في تحقيق أفضل النتائج داخل laquo;الائتلاف الوطني العراقيraquo; مقارنة بالشريكين الآخرين: المجلس الأعلى وحزب الفضيلة، وأصبحوا أصحاب الكلمة الأولى بعد حصولهم على أكثر من أربعين مقعداً، وإما ائتلاف laquo;القائمة العراقيةraquo; مع laquo;الائتلاف الوطني العراقيraquo; وlaquo;التحالف الكردستانيraquo;. وثانياً: تشكيل حكومة عبر تفكيك وتقسيم التحالفات التي قد يدفع ثمنها laquo;الائتلاف الوطنيraquo; أو laquo;القائمة العراقيةraquo;، من خلال تحالف نوري المالكي laquo;دولة القانونraquo; مع جزء من laquo;الائتلاف الوطنيraquo; (المجلس الأعلى وحزب الفضيلة) وجزء من laquo;القائمة العراقيةraquo; مع laquo;التحالف الكردستانيraquo;، أو عن طريق تحالف نوري المالكي مع laquo;الائتلاف الوطنيraquo;، وقوى صغيرة خاصة في الأوساط الكردية من خارج حزبي جلال طالباني ومسعود برزاني، أما الخيار الثالث فهو التخلي عن فكرة حكومة الأغلبية والعودة إلى خيار حكومة الوحدة الوطنية التي قد يفضلها إياد علاّوي كخيار اضطراري، شرط ألا يكون نوري المالكي على رأسها.
الأهداف الأميركية والإيرانية
هذه النتائج والخيارات الصعبة والمعقدة تزامنت وارتبطت بنتائج أخرى أبرزها التوجه التصويتي للسنة العرب في العراق الذين صوتوا بشكل غير طائفي عندما انخرطوا في قائمة علاّوي مع مرشحين شيعة، وعندما قبلوا بزعامة علاّوي الشيعي لقائمتهم الانتخابية، وأبرزها أيضاً نجاح قائمة علاّوي في حصد العدد الأكبر من الأصوات في محافظة كركوك التي شهدت تصاعدا في القوة التصويتية للعرب والتركمان على عكس توقعات الحزبين الكرديين اللذين واجها تحديات لا تقل خطورة في محافظات الإقليم الكردي من قوى كردية أخرى منافسة وضعت علامات استفهام قوية على تفرد هذين الحزبين بالحديث باسم الأكراد على المستوى الوطني العراقي.
مجمل هذه النتائج سيكون لها مردودها المباشر على الموقفين الإيراني والأميركي داخل العراق وعلى الخيارات المشتركة لإدارة مصالحهما في العراق، على النحو الذي أظهرته تهنئة الرئيس الأميركي للقيادة الإيرانية والشعب الإيراني بعيد النوروز وتجديد الثقة في الخيار الدبلوماسي واستمرار التمسك بالحوار لحل أزمة البرنامج النووي الإيراني شرط أن تفي إيران بالتزاماتها الدولية.
فالولايات المتحدة حرصت على إجراء الانتخابات في موعدها المحدد دون تأجيل، كما حرصت على إنجاح هذه الانتخابات لأنها وحدها التي تضمن نجاح واستمرار العملية السياسية التي هي أهم الشروط الحاكمة لعملية الانسحاب العسكري الأميركي من العراق.
فإذا كانت الولايات المتحدة تريد انسحاباً مشرفاً وتريد أن تحافظ على مصالحها الحيوية في العراق: النفط أولاً، وضمان عدم عودة العراق مجدداً كمصدر لتهديد الأمن الإسرائيلي وتهديد دول الجوار الصديقة، فإن ذلك لا يتحقق إلا من خلال ضمان استمرار العملية السياسية وضمان الأمن والاستقرار، والطريق إلى ذلك هو نجاح العملية الانتخابية في تحقيق وفاق وطني يقود إلى تشكيل حكومة قوية متماسكة يكون في مقدورها القيام بالمهمة وتأمين انسحاب أميركي مشرف من العراق، وبالطبع فإن الفشل في تحقيق ذلك سوف يجبر واشنطن على التوجه نحو خيارين بديلين: أولهما، تشكيل تحالف إقليمي يقوم بمهمة ملء فراغ الانسحاب الأميركي من العراق سياسياً وأمنياً عن طريق ثلاث دول إقليمية بارزة هي: سوريا وتركيا والسعودية مع تنسيق مصري وأردني. وثانيهما، الاضطرار إلى الدخول مع إيران في عملية توازن مصالح في العراق تعطي لإيران المكاسب التي تريدها شرط عدم المساس بالمصالح الأميركية.
أما إيران فإنها كانت تهدف إلى جعل هذه الانتخابات ونتائجها ورقة مساومة كبيرة مع الولايات المتحدة في العراق أولاً وفي الملف النووي ثانياً.
تعقيدات الرئاسة العراقية
وعلى ضوء ما حدث من نتائج وما يحدث من تعقيدات في تشكيل الحكومة واختيار رئيس الجمهورية الذي تحول هو الآخر إلى إشكالية إضافية في ظل تحفظ بل ورفض لبعض الأطراف لإعادة انتخاب جلال طالباني مرة أخرى رئيساً للجمهورية وهو المنصب الذي سوف يكتسب أهمية ابتداءً من هذه الدورة بعد انتهاء دور المجلس الرئاسي، فإن موقف كل من طهران وواشنطن أضحى أكثر صعوبة نظراً لأن الانتخابات لم تأت بالنتائج التي تحقق لكل منهما ما كان يأمله من مصالح وأهداف، ولذلك فإن واشنطن يمكن أن تلوح بورقة مراجعة جدول انسحاب قواتها من العراق بإعادة جدولة هذا الانسحاب بما يمكنها من البقاء مدة أطول لحين التأكد من أن الفرصة باتت مواتية لمثل هذا الانسحاب في محاولة للضغط على كل من القوى السياسية العراقية المتصارعة وعلى إيران. كما أن إيران تملك ورقة تعقيد عملية التشكيل الحكومي وورقة تجديد استئناف العنف لوضع واشنطن أمام اختبارات صعبة تضطرها إلى القبول بإعادة بحث الشأن العراقي معها مجدداً.
تصريحات الرئيس الأميركي أوباما وتهنئته للإيرانيين بعيد النوروز وتجديد الالتزام باستمرار الحوار مع إيران إشارة لا يمكن تجاهلها لتوجه أميركي نحو تمديد خيار الحوار مع إيران ليشمل العراق أيضاً، وإذا حدث ذلك فإن القوى العراقية الرافضة لإيران وبعض القوى الإقليمية المناوئة للنفوذ الإيراني في العراق ستجد نفسها في موقف صعب، ربما يؤثر هو الآخر على فرص التوافق الداخلي في العراق.
التعليقات