زهير فهد الحارثي

ما يحدث الآن في تركيا يكشف بحق عن وجهها الحقيقي، وعن تعقيدات حياتها المليئة بالتناقضات والنزاعات والاثنيات والأيديولوجيات والتي أعطت لها ذلك الرونق اللافت، فمشهدها الداخلي بالغ التعقيد، ودورها الخارجي مستجد ومتوازن لاسيما في علاقاتها بدول المنطقة.

ولعل من يقرأ التاريخ، لا يشعر بغرابة تجاه ما يحدث فيها، فالأتراك قد يختلفون وقد يحتدون وربما يتصادمون، ولكنهم بلا أدنى شك، يتفقون حول زعيمهم مصطفى كمال، الذي أطلقوا عليه لقب laquo;أتاتوركraquo; أي أبو الأتراك- لإيمانهم بأنه رسخ مفهوم العلمانية بعد نجاح ثورته ضد السلطة العثمانية، ويرى البعض أنه لولا ولاء الجيش ودعم الطبقة الوسطى الليبرالية لما تحقق النجاح لمشروع أتاتورك آنذاك.وهذا لا يعني إمكانية نجاح التجربة في مكان آخر بقدر ما أن ترسيخها هناك انطلق من ظروف ومعطيات متداخلة في المكونات الثقافية والاجتماعية في المجتمع التركي آنذاك.

غير أن كلما حدث خلاف سياسي في تركيا بين حزب العدالة والتنمية والمعارضة (القضائية العسكرية) على أي قضية من القضايا كالصلاحيات وضرورة تعديل الدستور، يخرج علينا البعض مُهولا مما سيحدث، ومُضخما الأحداث ومتوقعا انهيار الدولة، وكأنهم لا يعرفون تاريخية التجربة التركية وتراكمية عصارتها السياسية، فلا تلبث أن تكون قراءاتهم لامسة للقشور، وبعيدة عن اختراق الأعماق، ومع ذلك ففي حديثهم الكثير من الصحة، ولكنها ليست الصورة الشاملة لحقيقة المشهد السياسي.

فقناعاتهم تستند إلى الأحداث والخصومات خلال الأشهر الستة الماضية، وتنبؤاتهم تشير أن ثمة انقلابا قادما لا محالة بدليل محاكمة نحو مئتي شخص منذ 2008، في إطار قضيتي laquo;إرغينيكونraquo; وraquo;عملية المطرقةraquo;.وان ما حدث سوى إرهاصات للقادم، كما أن المعارضة ومؤسسات الدولة لاسيما الجيش، الذي يدين بأفكار أتاتورك لن يسمح بنجاح مخطط الحزب الحاكم في تمرير تعديلاته الدستورية.

على أن الجيش الذي أسقط 4 حكومات منذ 1960 ويعتبر العمود الفقري للنظام العلماني، كان قد نفى مؤخرا أي مؤامرات للقيام بانقلاب. وإن كان البعض رأى أن كشفها بمثابة ترسيخ لديمقراطية تركيا في حين أن آخرين انتقدوها باعتبارها وسيلة للحكومة لإحباط مخطط المعارضة العلمانية.

غير أن هناك اعتقاداً لدى من هم خارج السلطة في أن الحزب الحاكم يغلب مصلحته على مبادئ الديمقراطية، وانه يستخدمها بعض الأوقات لتمرير مشاريعه المتناغمة مع أيديولوجيته المحافظة كما ُيتهم أيضا بالسعي إلى أسلمة تركيا حيناً، وتنفيذ المطالب الأميركية حيناً آخر. وترى المعارضة بزعامة الحزب الجمهوري بأن التعديلات الدستورية التي يدعو إليها إردوغان ما هي إلا محاولة انقلاب أبيض على دستور 1982 الذي وضعه العسكر، واستغلال للمواطن التركي الذي سئم من حالة الصراع الدائم وصلابة الدستور في تقييد صلاحيات الحكومة.

لكن الحزب من جانبه، يعتقد انه يطرح تعديلات مشروعة يطالب بها الشعب التركي منذ زمن، ولذا فهو سيرتهن لصوته عندما يطرحها كاستفتاء، مع تأكيد الحزب في نفس الوقت تمسكه بأفكار أتاتورك وعلمانية الدولة، ولذا هم يفندون مزاعم المعارضة ويتساءلون مثلا ، ما علاقة مطالبتهم بإخضاع العسكر للمحاكم المدنية بمنهج أتاتورك، أو مسألة تحديد صلاحيات المحكمة الدستورية بالنظام العلماني.

يعلم اردوغان أن قوة معارضيه تنصب في تمسكهم بالدستور الحالي وقدرة اختراقهم لأجهزة الدولة، في حين أن كفته ترجح بسبب دعم الشارع له، فهو موقن انه عندما تسوء الأمور فلابد من إعادتها إلى نصابها، وذلك بأن يذهب لصندوق الاقتراع لأنه السلاح الذي يتكئ عليه ،وهو السر في استقرار ديمقراطية تركيا رغم تصاعد الدخان تارة وارتفاع الصخب تارة أخرى.

ويبدو أن الرجل المريض لم يعد مريضا بل يعيش أحسن حالاته .فتركيا اليوم ثاني أهم قوة عسكرية في حلف الأطلسي، لديها اقتصاد متنوع يعتمد على الصناعة، فضلا عن منظومة مؤسسية تقودها في نهاية المطاف إلى اعتبارها دولة إقليمية مؤثرة، وأصبح اقتصادها يماثل اقتصاديات الدول الناشئة القوية مثل الصين وروسيا والهند.

وما زاد الاهتمام بتركيا في محيطنا العربي يتمثل في مواقفها الداعمة للقضايا العربية ولغتها الحازمة تجاه إسرائيل رغم العلاقات الدبلوماسية، إلا أن المواقف العديدة لاردوغان حولته بطلا شعبيا عند العرب، وخلقت شعورا بعودة دافئة للعلاقات العربية ndash; التركية. ما رشح أنقرة أن تلعب أدوارا سياسية مهمة في الإقليم لتكون أحد الأضلاع الرئيسة المؤثرة في الشرق الأوسط.

على أن استانبول وقونيا، مدينتين شكلتا التجربة التركية بكل تجلياتها ولعبتا أدوارا هامة في إنضاجها.

كانت استانبول معشوقة أتاتورك، والذي اختار أنقرة كعاصمة بديلة خوفا على استانبول من القلاقل والحروب والاضطرابات ، حيث كانت نقطة البداية والموطن لبذر أفكاره فيها بكل عوالمها الثقافية والفنية فضلا عن قاطنيها الذين ساندوا توجهاته الليبرالية. بينما أصبحت قونيا المدينة الإسلامية المحافظة، التي أفرزت الحركات والأحزاب الإسلامية وذات الطابع الصوفي، هي البارزة على السطح الآن وكأنها تقطف ثمرة أيديولوجيتها بوصول اثنين من أبنائها( اردوغان وغول) لأعلى منصبين في الدولة. وقد سبقهما نجم الدين أربكان زعيم حزب الرفاه وأول رئيس وزراء إسلامي في تاريخ تركيا.

ولعل السر في نجاح حزب العدالة والتنمية الذي خرج من عباءة حزب الرفاه، فمن جهة أنه جاء إلى السلطة ومعه مشروعه السياسي ،ومن جهة أخرى يكمن في تطرف العلمانية التركية والإمعان في القطيعة مع كل ما هو إسلامي، والتي تمثلت في استبدال الحروف العربية باللاتينية وكذلك الأرقام، فضلا عن إلغاء الاحتفالات الدينية والأوقاف الإسلامية ناهيك عن استبدال إجازة الجمعة إلى يوم الأحد وغيرها من الممارسات التي تكرس رفض ما كان مطبقا في النظام العثماني.

هذه القطيعة أفرغت بعض الشعب التركي من الروحانيات، فتسربل في عالم المادية، ويبدو أن ثمة لحظة تاريخية تزامنت بين الشعب وولادة هذه الحركات الإسلامية، وكأنه وجد ضالته في رؤى هذه الفئة القادمة من الأناضول.

ولذا عندما هاجر بعض أبناء قونيا إلى المدن، والتحقوا بالجامعات، فإنهم قد تسلحوا بالعلم ولم يفرطوا في قناعاتهم الدينية وتدينهم الصوفي، وبالتالي أسسوا أرضية شعبية لأفكارهم المعتدلة التي جمعت بين المادة والروح، والتي لاقت رواجا لدى الطبقة الوسطى، ما ساهم في نجاحهم في الانتخابات النيابية. ورغم اتساع مساحات الخلاف والجدل، وعلمانية الجيش وتمسكه بأطروحات أتاتورك، إلا أن احترام القانون وتقديم المصالح القومية التركية والتوافق السياسي، هو بلا ريب ما عزز بقاء التجربة التركية رغم كل الأزمات الداخلية والخارجية.

صفوة القول، ستبقى تركيا بلد الديمقراطية برغم الأزمات والصراعات، وساحة الجدل ما بين العلمانية والإسلام ،ولعل نجاح تجربتها ربما يكمن في اندماج الدين والليبرالية أو لنقل قونيا واستانبول!!