مصطفى الخلفي

أي رسالة تحملها حادثة تغريم منتقبة سائقة في laquo;نانتraquo; بفرنسا تحت دعوى إعاقة النقاب لها عن القيادة بأمان؟
باختصار إنها تكشف عن المدى الذي بلغه الهوس العدائي داخل بعض الأوساط الفرنسية تجاه قضية هامشية لا يتجاوز عدد المعنيين بها 300 شخص على مستوى فرنسا بأكملها وذلك من أصل أكثر من ثلاثة ملايين مسلم، ولم يؤدِّ الرأي القانوني لمجلس الدولة الفرنسي حول عدم قانونية السعي نحو حظرٍ تام لما يسمى بالبرقع إلى أي تراجع في الموقف الحكومي والبرلماني.
قد يبدو من المثير الربط بين موضوعي الحجاب والنقاب في النقاش الفرنسي، إلا أن هيمنة هذا الملف على الأولويات الفرنسية الحكومية والمدنية سواء على المستوى المحلي أو على المستوى الدولي، والامتداد الذي عرفه نحو الساحة البلجيكية التي تتجه هي الأخرى لاستصدار قانون بحظر النقاب.. كل ذلك يطرح تساؤلات حول الخلفيات المريبة والكامنة وراء هذا المسعى.
لقد سبق لسيرج حلمي مدير نشر شهرية laquo;لوموند ديبلوماتيكraquo; أن انتقد وبحدة هذا التركيز الحكومي على هذه القضية على حساب قضايا أخطر بكثير، سواء من حيث الفئات الواسعة المعنية بها أو من حيث الآثار المالية والاقتصادية والاجتماعية المرتبطة بها، متسائلا عن إمكانية استعمال هذا الملف لتوجيه الانتباه بعيدا عن سياسات حكومية فاشلة، كما تساءل آخرون، وضمنهم علمانيون وحقوقيون، عن مدى العلاقة بين التركيز المستمر على هذا الملف وتحويله إلى قضية عمومية وبين الرغبة الدفينة لبعض الجهات الفرنسية اليمينية المتطرفة في توظيف هذا الملف انتخابيا وكذا استغلاله لتعميق حالة الفوبيا والخوف من الإسلام في القارة الأوروبية، وتأجيج التوتر تجاه النظام القيمي الإسلامي ككل، والانتقال بعد ذلك نحو عولمة النموذج الفرنسي على المستوى العالمي، باستعمال آليات المؤتمرات والاتفاقيات الدولية.
المثال البارز في هذا الصدد هو تركيز النشاط الفرنسي غير الحكومي بمناسبة دورة laquo;بكين+15raquo; للجنة وضع المرأة بالمجلس الاقتصادي والاجتماعي بالأمم المتحدة في النصف الأول من الشهر الماضي على هذا الملف، حيث إن البيان الوحيد الذي قدم في الدورة من قبل كل من laquo;هيئة التنسيق الفرنسية لجماعة الضغط النسائية الأوروبية، ومؤسسة النساء المتضامنات، ومنظمة نظرات نسائيةraquo; سعى إلى عولمة المقاربة الفرنسية لهذا الملف.
عند تحليل البيان نقف عند قضايا كثيرة، يمكن تسجيل اثنين منها لهما علاقة بموضوع المقال، الأولى تهم موضوع نظام الإرث، والثانية موضوع ارتداء الحجاب في المدرسة، حيث نصت الفقرة الرابعة من البيان على أنه laquo;لمكافحة فقر المرأة، يتعين أن تعتمد جميع الدول قوانين لإرساء المساواة بين النساء والرجال في شؤون الإرث، وأن تعكف على إنفاذهاraquo;. وهي مقاربة ملتبسة تربط بين الفقر والإرث وتكشف عن السعي لوضعه تغيير هذا النظام كمقدمة للتحرك الدولي القادم.
غير أن الفقرة التي خصصت لموضوع الحجاب كانت الأطول والأوضح في كشف الخلفيات الفلسفية، فحسب البيان فإن laquo;المدرسة هي البوابة التي يدلف منها الأطفال إلى رحاب الإنسانية عن طريق اكتساب المعارف والتقاء الآخر على السواء. لذلك، يتعين ألا تنضوي المدرسة تحت أي إيديولوجية سياسية أو دينية، وإنما ينبغي أن تعلم الأطفال إناثا وذكورا التعايش في إطار الاحترام المتبادلraquo;، و laquo;ذلك هو مبعث صدور القانون الفرنسي لعام ٢٠٠٤ الذي يحظر ارتداء العلامات الدينية في المدرسة، ويهدف إلى حماية الفتيات على اختلاف أعمارهنraquo;.
لا نريد الدخول في مناقشة لمضمون البيان، فذلك مجاله مكان آخر، لكن ما يهمنا هو أن البيان نموذج جلي لمنطق السعي لعولمة النموذج الفرنسي، فالبيان يتجاهل أن اللائكية التي تشكّل مرجع هذا التوجه هي نفسها أيديولوجية يتم السعي لفرضها واستغلالها لتهميش الخلفيات الدينية التي تشكلت عند الطفل في إطار أسرته وإبقائها خارج المدرسة، وذلك عوض العمل على تأسيس ثقافة الاحترام والتعايش الإيجابي والقبول بالاختلاف التي تشكل نقيض التصور اللائكي الرافض لارتداء الحجاب، وهو التصور الذي نجح بشكل بارز في العالم الأنجلوساكسوني وتقدم حيث أخفق النموذج الفرنسي.
لا يتوقف البيان في دفاعه عن النموذج الفرنسي عند كشف الخلفية الفلسفية الحاكمة، بل يعمل على الربط بين منطق المساواة وبين رفض الحجاب في الأماكن العامة، حيث لا يقتصر الأمر على المدرسة ليشمل الفضاء العام، فحسب الفقرة 10 من البيان laquo;إذا كان هناك من يعتبر أن الفتيات والشابات يشكلن مصدر إزعاج للنظام العام، وأنه ينبغي من ثَمَّ إن يغطّين شعرهن في الأماكن العامة حماية للأولاد الذين يُعتقد أﻧﻬم غير قادرين على التحكم في غرائزهم، فإن هذا الوضع يوِّلد تصورات تتعارض تماما مع مبدأ المساواة بين المرأة والرجلraquo;، ليضيف في الفقرة الموالية متسائلاً laquo;كيف يتصور الأطفال، إناثا وذكورا، الأماكن العامة إذا كان على أمهاﺗﻬم وأخواﺗﻬم أن يرتدين الحجاب، أن يتخفَّين عندما يخرجن من بيوﺗﻬن؟ بل كيف يتصورون المرأة نفسها؟raquo;.
ما يقع في فرنسا يكشف عن حالة هوس يراد الآن تعميمها وعولمتها بعد أن تتم أوربتها على مستوى الاتحاد الأوروبي، مما يفرض عدم تجاهل ما يقع في الساحة الفرنسية.