يوسف مكي

إثر سلسلة من المقالات نشرتها بهذه الصحيفة، وصحيفة الوطن السعودية، تناولت الأزمة المحتدمة بين الحكومة الإيرانية والحركة الإصلاحية، وتناقلتها عدد من المواقع العنكبوتية، تسلمت بعض الردود على بريدي الإلكتروني، بعضها متعاطف مع ما نشرت، والبعض الآخر، حمل أسئلة لحوحة، عن سر الاهتمام بالأوضاع الداخلية الإيرانية . وهل انتهينا من معالجة جل مشكلاتنا، ولم يعد من شيء آخر يشغلنا سوى مشكلات إيران . وتساءل البعض الآخر، عن الجدوى من نقد السياسات الإيرانية، وهل من مصلحة الأمة العربية أن تخسر أصدقاءها وتوسع من دائرة أعدائها، وتوجه بوصلة الصراع، إلى جهة إيران، بينما الصراع مع الصهاينة يتطلب تحشيد جهود العرب والمسلمين لاستعادة الحقوق والمقدسات .

الملاحظات السلبية التي تسلمتها، حملت بالطريقة التي طرحت بها، رغم ظاهرها المنطقي، نفساً تحريضياً، رقى إلى الشبهة في النوايا التي توجه التركيز على شأن من خارج المكان . . خارج شؤوننا الخاصة . وذهبت بعض الردود إلى أكثر من ذلك، فاعتبرت الأحاديث المنشورة تدخلاً في شؤون داخلية لبلد شقيق مسلم مجاور، تقتضي المصلحة ومبدأ حسن الجوار، أن نخاطبه دائماً بالحسنى . ورأى آخرون في ما كتب شماتة وضغينة واضحة على الجمهورية الإسلامية، بسبب الدور الذي لعبته ولا تزال تلعبه في أرض السواد .

والواقع أن ما طرح من تعليقات سلبية، حول أسباب الاهتمام بالموضوع الإيراني، هو من نسج خيالات الذين طرحوها . وتناول الموضوع الداخلي الإيراني، من وجهة نظرنا، أمر لا نختاره بمحض إرادتنا، بل يفرض ذاته علينا فرضاً لا فكاك منه . وقد أكد تصاعد الحرب الكلامية، في الأسابيع الأخيرة، بين حكومة الجمهورية الإسلامية، ودول مجلس التعاون الخليجي ذلك . فإيران رغم أنها هي الطرف الذي يتدخل في الشؤون الداخلية لعدد من البلدان العربية، والتي تحتل أجزاء من الوطن العربي، بضمنها الجزر الإماراتية العربية، هي التي تصعد من لغة التهديد والوعيد . والأحداث والتصريحات الإيرانية، التي تؤكد ذلك، لكثرتها لا تحتاج إلى إثبات . إن ذلك يجعل من اهتمامنا بما يجري في إيران، وتناوله بالقراءة والتحليل والتفكيك، في جوهره مُلِح ومشروع، ومناقشته ليست من باب الرياضة الذهنية، والترف الفكري .

إيران الدولة، بالنسبة لمنطقتنا ليست صحراء التبت، فقد شاءت حقائق الجغرافيا والتاريخ أن نكون على صلة مباشرة بما يجري فيها ومن حولها، كما شاءت حقائق الجغرافيا والتاريخ أيضاً، أن تكون علاقتنا بها في معظم الأحيان، علاقة متوترة رغم التشابك الديني والثقافي، والتلاقح الحضاري . ولسوء الحظ، فإن ثقل التاريخ وحضوره القوي وإسقاطاته، ما زالت حتى هذه اللحظة، تحكم سلوك النخبة الحاكمة في إيران، على اختلاف توجهاتها ومساربها، كما تحكم تشعباتها والقوى التي تستمد حضورها من المرجعية الدينية في قم .

إن تقرير ذلك، لا ينطلق من موقف شوفيني أو رؤية عنصرية، لسبب بسيط هو أن ثقل التاريخ، لم يكن عبئاً على مسيرتنا الحضارية، ولا على مواريثنا أو منظوماتنا الثقافية والفكرية، بل كان أثناء العصر الذهبي للعرب والمسلمين، مع جملة أخرى من العناصر، عامل إثراء وتخصيب للنهضة العربية . بالنسبة، للإيرانيين منذ الفتح العربي، لم يكن ذلك هو الحال، كانت تجليات النهضة العربية، وتوتراتها وتفاعلاتها، عوامل تذويب وتضعضع للإرث القديم، وللتركة الساسانية .

كانت ردة فعل الشعوب الفارسية، عندما اقتحمت جيوش المسلمين بلادهم في معركة القادسية، بقيادة الصحابي الجليل، سعد بن أبي وقاص هي القبول ldquo;عنوةrdquo; بالإسلام، ورفض العربية . وقد أسست تلك البداية، لقيام أكبر متراس بشري مانع، حال دون الامتداد الجغرافي للأمة العربية باتجاه الشرق، مع أن الإسلام وصل إلى السند وحدود الصين في ذلك الاتجاه .

وتبدو المقاربة أكثر وضوحاً، حين نستحضر ما حصل للجيوش العربية الفاتحة، التي اتجهت شمالاً حيث وصلت إلى أضنة، قريباً من هضبة الأناضول . وأيضا وبصورة أقوى، ما حدث للجيوش المتجهة غرباً، من مصر وعبرها إلى بلاد المغرب . فقد تم تعريب جميع المناطق التي اعتنقت الإسلام، وصولاً إلى جبل طارق، بل وصلت تلك الفتوحات إلى الأندلس، التي تعربت أجزاء كبيرة منها، وبقيت كذلك لعدة قرون . وبالمقابل تعطلت عملية التعريب شرقاً عند أبواب فارس .

كان التصادم مريراً بين عراقة حضارية ساسانية، وبين الجيوش الفاتحة، لدرجة جعلت عملية الفتح، من أطول حروب الجهاد التي قام بها العرب أثناء خلافة أمير المؤمنين، عمر بن الخطاب، وأكثرها ضراوة . وقد تركت عقدة التفوق حاجزاً نفسياً كبيراً، بين مواريث الإمبراطورية التي غربت، والحضارة التي أشرقت شمسها . وترك ذلك بصماته واضحة في نزوع استعلائي مستمر، وصدامات متتالية، أسهمت في دحر الحقبة الأموية، وقيام الخلافة العباسية، وأيضاً في صراعات متتالية، أثناء تلك الحقبة، بدءاً بمصرع أبي مسلم الخراساني، أثناء خلافة ldquo;أبو جعفر المنصورrdquo;، واستمراراً بالبرامكة، في عهد الخليفة العباسي، هارون الرشيد، إلى مصرع الخليفة الأمين . لم يكن ذلك الموقف، خروجاً على نواميس الكون، فالأمم كما يرى المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي، حين تواجه بهزائم وتحديات، تستنهض إرثها ومخزونها الحضاري، ويصبح استمرار وجودها، مرتبطاً بمشاعر التحدي، وبنوعية الاستجابة والتحفز المطلوبين لاستمرارية الحضور التاريخي .

لن نستغرق بعيداً في التاريخ، ولن نتابع صفحات الصراع الصفوي - العثماني، وإسقاطاته على المنطقة . والمؤكد أن الأجدى، هو تناول الحاضر، والانطلاق منه أملاً في أن يتجاوز الجميع عقد التاريخ، وأن يسلموا بأن تركة التاريخ، ينبغي أن لا تكون على حساب استحقاقات الجغرافيا . وأن عدم التدخل في الشؤون الداخلية، هو غاية المطلب شرط أن يكون ذلك هدفاً للجميع، لا أن يكون ذريعة للمزيد من التدخلات .

ولا يذهبن بنا الظن أبداً، في التصور بأن تآكل الأطراف ليس له تأثير في العمق الاستراتيجي للأمة . فالعمق يضعف بتآكل الأطراف . وإذا اعتبرنا ذلك مسلمة وبديهية تاريخية، فإيران الآن تسهم بامتياز في تآكل أطراف الأمة، وتعتدي على القلب منها .

فهي على سبيل المثال وكما أسلفنا، تحتل أرضاً عربية، يعرفها العرب أحياناً بالمحمرة وأحياناً بالأحواز، وكان الفرس يطلقون عليها ldquo;عربستانrdquo; أي منطقة العرب، تضم مدناً عربية عدة، كعبادان والحويزة والأحواز والمحمرة . وهذا اللواء هو ثلاثة أضعاف فلسطين التاريخية، وسكانه يتجاوزون ستة ملايين من العرب . كما تحتل جزراً عربية: أبو موسى وطنب الصغرى والكبرى، وتتدخل في كل شاردة وواردة في العراق الشقيق، وتؤسس مليشيات طائفية تابعة لها، منسقة مع قوات الاحتلال الأمريكي، ومسهمة عن عمد في تشظيه وتفتيته . وتروج أيضاً لمشاريع التفتيت الأمريكية، في المنطقة من خلال إحلال الانتماءات الطائفية، بديلاً من الهويات الوطنية . وتخلق في هذا المضمار، بؤراً للفتنة في اليمن والمغرب والجزائر ومصر ولبنان وسوريا والسودان وتونس ومنطقة الخليج العربي . كما تقوم بصناعة معارضات عربية، على أسس طائفية وإثنية، مهددة أمن الوطن العربي واستقراره، ما عدا تدخلاتها الفاضحة في بلدان إسلامية أخرى غير عربية، كأفغانستان .

في المقابل، لا يحتل العرب سنتيمتراً واحداً من الأراضي الإيرانية، ولا يتدخلون في شؤونها، مهددين أمنها واستقرارها . وليس في إيران، معارضة واحدة تحتمي بأي نظام عربي . والجميع في الطرف العربي ينشد الأمن والسلامة . ولا يطلب العرب من إيران، أي شيء سوى أن ترفع أيديها عن التدخل في قضاياهم، وتحترم خياراتهم السياسية وحقوقهم التاريخية . ورغم أنها مطالب بسيطة جدا، فإنها أمام نزعة الاستعلاء وأطماع التوسع لا تزال بعيدة المنال .

نناقش ما جرى ويجري في إيران، لأن لذلك تأثير مباشر في أمننا واستقرارنا . ولسنا في وارد تقرير ما ينبغي أن يكون هناك، ولن يكون علينا سوى احترام خيارات شعوب إيران وإرادتها، شرط أن لا تكون تلك الخيارات على حساب حقوقنا وأمننا . ونتطلع إلى علاقات متكافئة، واحترام لمبادئ العدل والقانون، وشرعة الأمم . ولن نكل رغم ثقل التاريخ وإسقاطاته عن التطلع إلى تعاون مثمر بين أمتنا وبين كافة الشعوب المجاورة حين تختار السلام ولغة الحوار، بديلاً من لغة التهديد والقوة وفرض سياسة الأمر الواقع .