عبدالله بشارة

قام رئيس جمهورية سيراليون في الأسبوع الماضي بزيارة الى الكويت للمشاركة في احتفالات يوم أفريقيا، ويصادف يوم 25 مايو ذكرى قيام منظمة الوحدة الأفريقية في مايو عام 1963، وقد نظمت جامعة الخليج معرضا للتعريف بما تملكه أفريقيا من تراث في الصناعات التراثية وفي الفنون عبر استعراضات تخللتها أغان وأناشيد تعبيرا عن الابتهاج بتلك المناسبة التاريخية، وانتهز الرئيس الزائر الفرصة لالقاء كلمة ليقدم تصورا عن أماني أفريقيا المستقبلية، معتبرا ان السلام كخيار استراتيجي هو طريق الصواب المؤدي الى التضامن والتنمية بين دول القارة، وأن هذا السلام المنشود ليس صناعة حكومات فقط وانما هو حصيلة الشراكة بين الشعوب في أفريقيا وبين المجتمعات الأخرى الأعضاء في الأسرة العالمية، مشيرا الى تجربة بلاده التي خاضت حروبا أهلية دامية، وأوصى بترسيخ الديموقراطية كقاعدة جوهرية لتعميق السلام بين الدول.
جاءت المناسبة الأفريقية في الوقت الذي يشتد فيه عزم الكويت على توسيع وجودها في القارة السمراء، بفتح سفارات في عدة دول في غرب القارة وشرقها وجنوبها، وفق برنامج مستخلص من تجربة الكويت في توسيع مشاريع التنمية عبر الصندوق الكويتي المشهور الذي أسس علاقات تنويرية ومثمرة مع جميع الدول الأفريقية بسبب نزاهة مساعداته وجديته وحرفيته في التنفيذ، وبسبب المنظمات الكويتية الخيرية والتجمعات الاسلامية التي شيدت المدارس والمستشفيات ومشاريع أخرى في المياه والزراعة.
ولعل أبرزها المؤسسة التي تبناها الدكتور عبدالرحمن السميط، الطبيب الكويتي الذي أهدى حياته وزمانه ومعرفته لأفريقيا ومازال يعيش فيها على الرغم من ظروفه الصحية، ويتمتع هذا الطبيب الانساني المرتفع بسمعة لا يضاهيها أحد في جمالها سوى انجازاته وانغماسه في روح أفريقيا وفي أوجاعها وفي طموحاتها.
عايشت الدبلوماسية الأفريقية في الأمم المتحدة، شاهدت قوتها وتعرفت على ضعفها، شاركت آمالها وعبّرت ممثلا لدولة الكويت عن خيبتها، كانت التفرقة العنصرية التي جسدها نظام جنوب أفريقيا الهدف البارز للاستراتيجية الأفريقية، وكانت طموحات الأفارقة واسعة لكنها واقعية في تطورها وتدرجها، وكانت شعاراتهم تميز أسلوبهم في تأمين مؤازرة أمريكية وأوروبية جماعية في عزل جنوب أفريقيا، وفي فضح فلسفتها الجهنمية وفي تعرية منطقها واحراجها عبر تشريح النهج الشيطاني لأساليبها.
كان الأفارقة يتحركون كخلايا فاعلة ومتحركة ومؤثرة، وكنا كمجموعة عربية مؤازرة ومشاركة وفاعلة في تعزيز الشراكة العربية-الأفريقية، وكان الأفارقة يرتاحون لأهل الخليج لأنهم مدركون بأن مواقف الخليج لا تحمل أجندات خاصة، وهي بلا أطماع وبلا مكافآت، وانما عن قناعات تحمل قيماً انسانية عالية، وكنا حريصين أيضا على الابتعاد عن مطالب تحرج أحدا منهم، فبعضهم معذور لمواقفه لاعتماده على مساعدات خارجية أو تعقيدات داخلية، أو تقلبات وخلافات حزبية.
كانت قضيتهم انسانية، سخط عارم ضد التفرقة التي تعاني منها الأغلبية السوداء، التي شحنت الى كانتونات مسيجة ومعزولة، تستغلها الأقلية البيضاء كمخزون للعمالة الرخيصة التي توظفها في أعمال شاقة أبرزها المناجم العميقة والبدائية والقاتلة.
ونجح الأفارقة في كسب الاجماع العالمي لابتعادهم عن التسييس المتشدد مستفيدين من التعاطف الجامع، وبأسلوب تتابعي دون مواجهة عاصفة مع واشنطن أو لندن.
جاء الرئيس الجزائري الحالي، عبدالعزيز بوتفليقة، كرئيس للجمعية العام للأمم المتحدة عام 1974، وفي رئاسته تحقق التطور الذي أرادته المجموعة الأفريقية، وذلك بالاعتراض على أوراق تفويض وفد جنوب أفريقيا الى الأمم المتحدة، على أساس أنه لا يمثل الأغلبية وليست له شرعية، ولذلك يصبح حضور وفد جنوب أفريقيا الذي لا يمثل الأغلبية لا معنى له، وهو مرفوض من قبل أغلبية شعوب العالم، وقد شهدت قاعة الأمم المتحدة في ذلك اليوم المشهود جدلا سيآسيا وقانونيا رأت الدول الأوروبية فيه تجاوزات ابتدعها رئيس الجمعية (بوتفليقة) في تقديم مبررات وتفسيرات غريبة ودخيلة على لائحة الاجراءات التي تنظم عمل الأمم المتحدة.
ولم يتأثر الرئيس لذلك الانتقاد اللاذع لتفسيراته وترك حكمه للأغلبية لتبدي موقفها حول تلك التفسيرات.
وعندما بدأ التصويت، كان واضحا ان المجموعة الأفريقية، حققت نصرا تاريخيا في ابعاد وفد جنوب أفريقيا من مداولات الأمم المتحدة.
وبعدها جاءت الخطوة الأهم عندما توجه الأفارقة الى مجلس الأمن مطالبين بفرض عقوبات اقتصادية على النظام العنصري، لكن المفاوضات المضنية أثمرت اتفاقا على فرض حظر على تصدير السلاح الى جنوب أفريقيا كخطوة أولى تقبلها الأفارقة.
ولعل الصدف جاءت بي شخصيا كأول رئيس لتلك اللجنة التي تختص بمنع بيع السلاح الى جنوب أفريقيا، وهي منبثقة من مجلس الأمن، الذي اعتبر نظام جنوب أفريقيا مهددا للامن والسلام العالميين.
وهنا شهدت شخصيا مرحلة الخداع الذي مارسته الدول كلها، الأوروبية وغيرها، الاشتراكية والراسمالية، الأغنياء والفقراء، لاختراق الحصارالذي يلزم الجميع بتنفيذه، وشاهدت بنفسي، خلال سنتين من رئاسة تلك اللجنة البائسة، أنواعا من الحيل والأكاذيب وسجلا باهتا في خيانة الأمانة، فقد كانت اللجنة تعقد اجتماعات دورية لمراجعة الوضع حول من يصدر ومن يخدع ومن يلتزم.
ولأن اللجنة تعتمد على نوايا الدول الأعضاء ومساهمتها في توفير المعلومات عن هوية من يبيع السلاح، ظلت اللجنة أسيرة لما تتكرم به الدول الأعضاء من معلومات توفرها عن شخصية المحتال.
وبعد مرور وقت بدأنا نتابع ما تنشره الصحف عن تجار السلاح من أفراد ومجموعات ودول، بعد ان تلاشى الأمل في تعاون الدول الأعضاء، ولم تحقق اللجنة طوال رئاستي لها أي تقدم في تعرية المحتالين، فقد كانت الدول تغطي على بعضها، فالعارفون في لندن لا يكشفون أسرار موسكو، لأن الأخيرة تمارس الاحتيال نفسه، والجميع ملتزم بقاعدة الصمت والتستر، تاركين اللجنة ورئيسها لمعاناة الاخفاق.
وقد أعددت خطابا أمام اللجنة لا يخلو من القسوة ومن النقد اللاذع لدبلوماسية الخداع ونهج تعجيز اللجنة، وكانت ردة الفعل بين الحاضرين الصمت المطبق، وكنت أظن بأن أسلوب الاستفزاز سيثير الأعضاء غير أنني فشلت في ذلك حيث أدركت بعد وقت طويل، بأن للكبار لائحة سلوك غير تلك التي نعرفها، وتركت اللجنة، بعد انتهاء عضوية الكويت في مجلس الأمن.
وجاء بعدي شخص آخر لم يتردد في ابلاغي دائما عن عجز اللجنة عن القيام بواجبها، فقد كانت الأسلحة تهرب الى جنوب أفريقيا بطرق غير معروفة في ابتكارها، كانت موسكو تتستر وراء دول مثل بلغاريا وتشيكوسلوفاكيا، وفرنسا وأخرى وراء شركات ضخمة لها ضلوع متينة في مهنة التهريب.
وعندما تحتفل الآن أفريقيا بعد ثلاثة عقود من ذلك اليوم الذي اتخذ فيه الرئيس بوتفليقة قراره التاريخي، ستنظر الى المستقبل بعزم تنموي، فلا استعمار موجوداً، ولا تفرقة عرقية تمارس، ولا عبودية تحت غطاء التفوق العرقي.
وقد نجح رئيس جمهورية سيراليون في تعريف واقع أفريقيا باصراره على الشراكة الأفريقية ndash; العالمية من أجل انتشال القارة من آفات جديدة، أمراض ونقص في الماء والدواء والغذاء، فآلام اليوم غير ما كانت عليه زمان، فالحاجة الى المال والاستثمار هي الصوت الذي يطغى على ما عداه، بعد ان كان التحرر صوت أفريقيا العالي في قاعات الأمم المتحدة..
هناك بعض الملاحظات الايجابية في الدبلوماسية الأفريقية، لا بأس من استعراض بعضها:
أولا: معظم قادة أفريقيا درسوا في أوروبا وأمريكا في معاهد لها صيت أكاديمي، تشربوا من الثقافة الغربية، وجاءت معالجتهم لقضايا القارة منسجمة مع حقائق الحياة والامكانات، وكانت مقاربتهم واقعية ولها قبول دولي، فواقع الزعيم مانديلا يؤكد هذا التراث، خرج زعيما أفريقيا عالميا بعد ان كسب اعجاب الخصوم والناقدين والمترددين وحمل روح أفريقيا المتسامحة، ونال جائزة نوبل للسلام.
ثانيا: لم يكن الأفارقة في وفاق مع أسلوب المتطرفين من الدول العربية الأفريقية الذين كانوا يسعون لفرض مرئيات وتوصيات ويدعون الى مواقف متصلبة تفقد الأفارقة الدعم الدولي، ولا يجدون دعما عربيا أفريقيا يعوضهم عن الدعم الدولي.
وقد عاصرت تجربة العرب في كوبا بطرد مصر من عدم الانحياز وتصدى الافارقة لتلك المساعي رافضين الابتزاز والاحراجات، وتبنوا سياسة موضوعية حافظت على هيبة المؤتمر وأفشلت تدخلات وفود العراق وسورية وعرفات الذي قاد المعركة ضد مصر بنفسه.
ثالثا: منذ اليوم الأول لقيام منظمة الوحدة الأفريقية في مايو 1963، التزم الافارقة بالحدود التي ورثوها من الاستعمار، والتي خططتها دول أوروبا، لمعرفتهم بأن فتح واقع الحدود سيدخلهم في طوفان لن ينجوا منه، ولذلك سلمت العلاقات من التوترات الحدودية.
وتبقى هموم أفريقيا على جدول الأعمال العالمي لحاجتها الى المشاركة الانسانية الدولية من أجل القضاء على الآفات التي تعاني منها القارة والتي تهدد استقرار الانسان أينما كان..