مالك التريكي

عندما يتعلق الأمر بالأعداء أو الضعفاء، وأولئك في أغلب الحالات هم هؤلاء، تنتهج الدول الغربية وهيئة الأمم (أو ما يسمى مجازا، أو مزاحا ثقيلا، بـ'المجتمع الدولي') سياسة العقوبات التي عادة ما تكون مقدمة للحروب التأديبية. أما إذا تعلق الأمر بالأصدقاء والأقوياء، وأولئك في أغلب الحالات هم هؤلاء، فإن 'المجتمع الدولي' ينتهج سياسة التفرج الصامت التي عادة ما تفضي إلى التواطؤ اللاواعي أو المقصود. لكن إذا بلغت الأمور حدا خطيرا وأخذت 'المجتمع الدولي' النخوة واستيقظ فيه الضمير بعد أن يكون قد سهّل، بتواطئه، التمادي في ارتكاب أبشع الجرائم، فماذا تراه يفعل؟ ماذا تراه يطمح إلى أن ينجز؟ إذا بلغت الأمور حدا خطيرا فإن 'المجتمع الدولي' يستجمع أقصى شجاعته ومنتهى فصاحته ويعلنها عالية مجلجلة ملء سمع الزمان: يدعو بالفم الملآن إلى فتح تحقيق. أي والله.
تحقيق آخر إذن. مستقل محايد وموضوعي. تحقيق تشير مجرد فكرته إلى أن هنالك تكافؤا أخلاقيا بين طرفي القضية يجعل النتيجة مجهولة ومستحيلة الانكشاف والاكتشاف قبل انتهاء جميع مجريات البحث والتحري. تحقيق تشير مجرد فكرته إلى أن هنالك احتمالا، ولو بنسبة صفر فاصل واحد في المليار، أن دعاة السلام المتضامنين مع الشعب الفلسطيني الذين كانوا على متن سفن أسطول الحرية ربما يكونون هم الذين استخدموا العنف ضد الجيش الإسرائيلي وأنهم لم يتجهوا إلى فلسطين إلا بنيّة شن الحرب على دولة إسرائيل. إذ لا يمكن لـ'المجتمع الدولي' أن يدعو إلى إجراء تحقيق في ملابسات ما حدث على سفينة مرمرة التركية إلا إذا كان يظن أن هذا الاحتمال السوريالي يظل، رغم كل شيء، احتمالا قائما باعتبار أن المبحرين على أسطول الحرية ربما تكون أنفسهم سولت لهم الاستقواء بغلبتهم العددية الساحقة وتفوقهم العسكري التكنولوجي الهائل وتمرسهم بفنون القتال على فئة قليلة هي جيش إسرائيل الفاضل الذي لا جدال في أنه مجرد من السلاح بل أعزل حتى من نية الاشتباك والعنف. فهو لم يسمع بهما من قبل، ناهيك أن يخطرا له أبدا على بال.
تحقيق آخر. ذلك أن الديمقراطيات الغربية مدمنة على سياسة اقتحام الأبواب المفتوحة أصلا. تجهد نفسها في إثبات حقائق هي من البداهة بحيث لا تحتاج إلى إثبات. ولهذا كلما اندلعت أزمة ترى الساسة يتسابقون إلى المطالبة بفتح تحقيق رغم أن سبب الأزمة أو المسؤول عنها يكون في معظم الحالات معروفا. حتى أنه صار (مثلما سبق أن ذكرنا هنا قبل مدة بمناسبة فتح تحقيق خامس (!) في ملابسات مشاركة بريطانيا في العدوان على العراق) لكلمة 'تحقيق' وعبارة 'لا بد من فتح تحقيق' هالة، بل سحر موهم بأن هذا الطقس السياسي المكرور هو 'أم المطالب' وأبو الحلول.
وإذا كان من المعقول القول إن تحقيقات مثل تلك التي أجراها ريتشارد فولكس مقرر مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وريتشارد غولدستون رئيس لجنة تقصي الحقائق حول العدوان الإسرائيلي على غزة (وسواهما من التحقيقات الدولية، وحتى الإسرائيلية، السابقة حول جرائم 'جيش الدفاع') قد كان لها بالغ الأثر في تبيان مدى همجية الاحتلال الإسرائيلي، فإن من المعقول أيضا التساؤل عن مدى جدوى الاكتفاء بفضح همجية إسرائيل وتعرية حقيقتها التي صارت معلومة لكل الإنسانية (باستثناء أهل السياسية والإعلام في الولايات المتحدة) إذا كان 'المجتمع الدولي' مستمرا، رغم كل تحقيقات الفضح والتعرية، في تركها تعربد كما تشاء معتمدة على تواطئه اللاواعي أو المقصود، مطمئنة إلى أنه لن يقدر عليها أحد.
لا معنى لبذل كل هذا الجهد الدبلوماسي في سبيل مجرد إجراء تحقيق لا تخامر البشرية السوية شك في نتيجته: وهي أن الجيش هو الذي اعتدى على المدنيين قتلا وجرحا وليس العكس، وأن الاعتداء وقع في المياه الدولية وليس في 'الحمى' الإسرائيلي. هذا التحقيق لا أهمية عملية له لأنه لا يتصدى لعلاج مشكلة العجز الدولي عن الاضطلاع بمسؤولية محاسبة إسرائيل ومحاكمة ساستها على ما ارتكبوه طيلة أعوام من جرائم ضد الإنسانية بإحكامهم خناق الحصار والتجويع على أهل غزة الصابرين. ومما يزيد من عبثية هذا السيناريو الممجوج أن تفاصيله لا تكتمل طبعا إلا بروتين الدخول الإسرائيلي على الخط بمزيد من المعاندة والمجاهدة ضد مؤامرة التحقيق هذه وبمزيد من التظلم الدامع إلى واشنطن وإدارتها من عدوان نيويورك وأممها...