رشيد الخيّون


يوم الأحد (13 من الشَّهر الجاري)، اقتحم جمهرة من المسلحين بناية البنك المركزي العراقي وسط بغداد، ومركزها التِّجاري القديم، وهي ليست الغزوة الأولى على بيوت المال، لكنها الأضخم والأَخطر، كونها طالت البيت المركزي للمال، وهو ليس مخزناً للنَّقد فحسب وإنما للوثائق وأسرار الدولة المالية أيضاً، وهو بعبارة موجزة عصب حركة البلاد. نعم، quot;القاعدةquot; تتحرك، وعصابات الجريمة تتكاثر. بيدَ أنه يصعب نسبة كلِّ غزوات البنوك، وحرق دوائر الدولة، لـquot;القاعدةquot; أو لبقية العصابات، خصوصاً إذا علمنا أن بناية البنك المركزي محمية بإتقان، يُضاف إلى ذلك أن بيانات المؤسسة الأمنية تكاد تُذكر ببيانات قُبيل سقوط النِّظام السابق! فما نُفذت عملية خطيرة إلا وأذاع لسان حالها القبض على العصابة! فباتت غير مُصدَّقة. والأخطر أنه أعلن تجفيف منابع quot;القاعدةquot; المالية؛ لذا ستقوم بحملات سطوٍ على البنوك ومحلات الصاغة! وهو، في هذا الإعلان، إما نبهها، من غير قصد، وإما أراد تبرير ما حدث وسيحدث لبيوت المال.

تأسس البنك المركزي العراقي على مراحل، فبعد إلغاء الرُّوبية الهندية، أخذت الدَّولة تدير سياستها النَّقدية عن طريق لجنة العملة العراقية، ويُكتب اسمها على العملات، حتى تأسس المصرف الوطني 1947، فالبنك المركزي عام 1956 (القيسي، النُّقود في العراق). ولعلَّ إدارته من الدوائر القليلة التي حظيت دون سواها (2003) بمحافظ من ذوي الكفاءة والنَّزاهة، الاقتصادي سنان محمد رضا الشبيبي، وهو من بيت وجاهة وأدب ووطنية حقة؛ لذا يمكن الاطمئنان على هذه الدائرة الخطيرة، إلا أن الفرد والفردين والثلاثة ليس لهم مواجهة جموع من الأدعياء والفاسدين.

يغلب على الظن أنه لو كان الشبيبي، من الذين يمتثلون لطلبات اللعب في المال، لما توجهت تلك الجمهرة المجهولة الهوية، حتى هذه اللحظة، واقتحمت البناية المحمية بشدة، وتدخل ولم تسرق بل اكتفت بحرق الوثائق، لكنها على ما يبدو لم تتمكن من الوصول إلى مركز الأسرار، وثائق المال العام، فما هي إلا أيام وستأتي وزارة جديدة، فلا بد لها من تقديم ولائها للشَّعب بكشف ما هو مستور، وفي مقدمتها ما تحويه خزائن البنك المركزي.

ليس من تعصب بلداني، ولا عيب في ذلك إذا لم نقابله بعار التَّعصب لقومية أو طائفة وقتل النَّاس وإقصائهم باسمهما أطمأن إلى ما قيل: إن العراق بلد الأوليات، ومنها التَّعامل النَّقدي، ففي الحِقب السومرية والبابلية والآشورية، استخدم العراقيون عملة اسمها quot;الشَّيقلquot;، هذا ما ورد في أقدم القوانين التي أصدرها الملك أورنمو (2111- 2003 قبل الميلاد)، أي قبل شريعة حامورابي بقرون، وظل quot;الشَّيقلquot;، وهو وزن من الفضة، متداولاً، في كلِّ دول العراق القديمة، فمن قانون أورنمو: quot;إذا قطع رجلٌ قدم رجلٍ آخر عليه أن يدفع عشر شيقلات من الفضة غرامةquot; (فوزي رشيد، القوانين في العراق القديم).

وها هو الشَّيقل (الشَّيكل) أصبح عملة إسرائيل الرَّسمية، بينما انمحى اسمه من العراق بالدِّرهم والدِّينار. وليت quot;الشَّيقلquot; ثبت عملةً عراقيةً، قبل أن تتلقفها إسرائيل، لتصنع لوجودها عمقاً حضارياً. وإذا كانت القضية قضية عروبة وإسلام، فالدَّنانير والدَّراهم ليست من بلاد العرب، وإنما كانت يونانية ورومانية، عربها الخليفة عبد الملك بن مروان (ت 86 هـ).

لم تقتبس إسرائيل اسم العملة من العراق فحسب، وإنما اقتبست اسم عاصمتها تل أبيب أيضاً، وهو quot;اسم بابلي معناه كومة أو تل سنابل القمح، قرية في بابلquot; (قاموس الكتاب المقدس). وأورد المسعودي (ت 346 هـ) ذاكراً رئيس العنانية: quot;كان رئيس الجوالي بأرض العراق والفراتية، إنهم يوقعون الفصح حتى يكتمل إدراك السُّنبل، ويسمونه أَبيبquot; (التنبيه والإشراف). وهنا أُذكر بما يتحمله المرتكبون جريمة تهجير يهود العراق، وهم الذين عاشوا وساهموا في تأسيس حضارة بابل، واليوم تنشط كائنات الكراهية ذاتها لإفراغه من مسيحييه ومندائييه.

ليس أكثر من العراق تنوعاً باستخدام النَّقد؛ لذا أمست متاحفه من أغنى المتاحف بالمسكوكات، من غير ما توزع على متاحف العالم، ذلك لكثرة ما وطئت أرضه من سنابك خيول الغزاة، وكلُّ غازٍ يضرب عملته. ليس مثل المسكوكات توثيقاً للحوادث، وأسماء الملوك والسَّلاطين. ومَنْ كره قراءة كتب تاريخ الشاقة يكفيه النَّظر في تلك المسكوكات.

نعلم أن أخطر ما بالعراق، قديماً وحديثاً، هو الطائفية، واستغلت النَّقود بنبشها، فسلاطين المغول بعد إسلامهم الرَّسمي (694 هـ) نقشوا أسماء الخلفاء الراشدين. ومَنْ تشيع، مثل ألجايتو (ت 717 هـ)، طوق مسكوكاته بأسماء الأئمة الاثني عشر (العراق بين احتلالين)، وكم سبب ذلك من غارات متبادلة بين المحلات، إنها السياسة لا اختلاف المذاهب.

كم كانت النُّقود خطيرة على حياة النَّاس، عندما لا تجد سائساً يسوسها بدراية، ففي سنة 645 هـ، أيام المستعصم بالله (قُتل 656 هـ)، آخر الخلفاء، حصل أن الدِّيوان عزم على إبطال المُعاملة بالنَّقد، والعودة إلى quot;القراضة الصوريةquot; (كتاب الحوادث)، أي المقايضة بالسِّلع. أُتخذ هذا القرار لأن الدَّراهم بأيدي النَّاس زادت على الذَّهب، وحصل التَّضخم. وكم من سنة، مثل تلك، ينشط المزورون لتزييف العملة، وقد عُرفت بـquot;الدَّراهم الزِّيوفquot; (نفسه) وما صاحب ذلك من مجاعة وغلاء، وعسر حال!

حصل مثل ذلك في تسعينيات القرن العشرين، عندما أخذت السُّلطة بضرب العملة، من دون غِطاء، حتى فرق التعامل بين طبعتي الدِّينار العراقي؛ المحلية والسُّويسرية، وظل إقليم كُردستان، حتى ضرب العملة الجديدة، يتعامل بالسُّويسري، لزيف المحلي، وتراجع سعر الدِّينار إلى أسفل الدَّرجات. بينما أول ما ضُرب الدِّينار عام 1931 كان يُعادل جنيهاً إسترلينياً. لكن عدم الاستقرار السياسي، بجهود المغامرين، كان وراء التدهور المريع في سعر الدِّينار!

نسمع بمئات المليارات تدخل خزينة العراق، تقابلها عشرات يطالها الفساد. فتقرير هيئة النَّزاهة الأخير خطير للغاية، ولا يخلو أمر غزو البنك من استهداف الوثائق! قرأنا في دفاتر التعليم الماركسية أن الرَّأسمالي كلما ازداد ربحه، وهُدد بخسارة، تصاعدت مغامرته، ولا يتردد في اقتراف أشد ما يمكن اقترافه. إن صحت تلك المقولة أو لم تصح، دعونا عكسها على الفاسدين بالمال، وقد تعدت إلى المليارات، أتتهم بلا سعي سوى موت الضمير، أيعفُّون عن غزو خزانة الأسرار، وماذا تعني عندهم حيوات الموظفين، والمكلفين بالاقتحام! على الأمنيين الأخيار الحذر الحذر، فستكثر الحرائق، ولا يتردد الفاسدون بالمليارات، عند الضِّيق، في ارتكاب فعلة شمشون: quot;عليَّ وعلى أعدائيquot;!