عادل الطريفي

في البصرة، خرج العشرات في مظاهرة ضد مجلس المحافظة بسبب النقص الحاد في التيار الكهربائي، وحين ازدادت أعداد المتظاهرين عن السيطرة قام رجال الآمن باستدعاء تعزيزات إضافية، وإطلاق الرصاص الحي ضد المتظاهرين الذين استخدموا الحجارة. سقط قتيل وأصيب اثنان بالجراح مما استدعى تدخل الحكومة المركزية بلجنة تحقيق، ووعود بزيادة حصة البصرة من التيار الكهربائي. اللافت في الحادثة أن مواطنين مسالمين سقطوا برصاص الحكومة، وليس برصاص المحتل أو الإرهابيين، في وقت لم تخرج البلد فيه من متاهة العثور على رئيس للحكومة. منذ مارس الماضي والبرلمان العراقي معطل عن اتخاذ القرارات، وحين انعقدت أول جلسة للبرلمان قرر زعماء الأحزاب المتنازعة أن تكون الجلسة مفتوحة إلى حين اختيار رئيس جديد للوزارة، وهو ما اعتبره بعض المراقبين العراقيين التفافا على الاستحقاق الدستوري بسبب الخلاف حول تشكيل الوزارة.

ما يزيد المشهد السياسي تعقيدا هو أن العراق لم يتغير كثيرا منذ تولي الرئيس نوري المالكي رئاسة الوزارة، فالبلد لا يزال على الرغم من التحسن النسبي في مجال الأمن أكثر بقعة في العالم تعرضا للهجمات الإرهابية بحسب تقرير مؤسسة laquo;مابلكروفتraquo; البريطانية، حيث ذكر التقرير (16 فبراير) أن عدد قتلى حوادث العنف في العراق تجاوز 4 آلاف قتيل خلال عام 2009، أي بواقع 100 - 500 قتيل شهريا. البعض يرى في الحالة العراقية تكرارا للنموذج الطائفي؛ ولذلك يبررون بشكل صريح المحاصصة الطائفية، وقد لفت أحد المعلقين العراقيين الانتباه إلى أن الأمم المتحدة استعانت بمستشار لبناني بداية الغزو للمساعدة على تحصيل الاستقرار في العراق. ولعل السؤال الهام في هذه المرحلة: هل العراق بحاجة إلى حكومة مركزية قوية، أي صلاحيات كبيرة لمنصب رئيس الوزراء؟

في حوار أجري مؤخرا (9 يونيو، laquo;نيويورك تايمزraquo;) قال السيد نوري المالكي: laquo;إن العراق بحاجة إلى رئيس وزراء قوي، وليس إلى شرطي مرورraquo;، وهذا التعليق يكشف عن محاولة للدفع باتجاه مزيد من الصلاحيات لمنصب رئاسة الوزراء، الذي يناضل المالكي للاحتفاظ به، لا سيما بعد رفضه مقترحات الائتلاف العراقي الوطني بترشيح عدد من الأسماء لتولي الوزارة. من حق المالكي أن يصر على أحقيته في الترشح مرة أخرى داخل الائتلاف، ولكن من الضرورة الإشارة إلى أن دستورية laquo;الكتلة الأكبرraquo; غير محسومة للائتلاف بعد، لأنه قد تم الإعلان عنه - أي الائتلاف - عقب الانتخابات وليس قبلها. أيضا، من الواضح أن منافس المالكي الرئيسي إياد علاوي، رئيس القائمة العراقية، لا يحظى هو الآخر بإجماع داخل البرلمان على توليه المنصب. صحيح أن قائمته حصلت على قرابة ربع الأصوات، وأنه وفقا للقانون هو الأحق بتشكيل الحكومة. بيد أن الأحقية شيء، والقدرة على إقناع ممثلي الشعب أمر آخر. لقد عجز علاوي عن اختراق الغالبية الشيعية المهمة، أو بناء توافق يتجاوز دائرة ناخبيه، وعلى الرغم من قناعة الكثيرين بصلاحيته للمنصب كرجل علماني يدعو للتصالح مع بقايا البعث، وقدرته على إصلاح علاقات العراق بدول الجوار العربي، فإن تلك المواهب والمزايا لا تجد لها بعد جذورا قوية داخل العراق.

أزمة الحكم المستمرة في العراق اليوم تعيد للأذهان مسألة تم طرحها مرارا في الفترة التي أعقبت استقلال الدول الحديثة في النصف الثاني من القرن الماضي، وهي أن الدول الخارجة حديثا من الاستعمار لا تملك مؤسسات (وكذلك نصوص مؤسسة) قادرة على ضمان الاستقرار السياسي لأنظمة الحكم، ولذلك فإن الأفراد - لا سيما من السياسيين ذوي الكاريزما الشعبية - يملكون وحدهم خلق حالة استقرار سياسي بالقوة أو التراضي المرحلي. ليست هناك نماذج مثالية لمسألة الاستقرار هذه، باستثناء الولايات المتحدة وأوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، ولكن الجدل في حقيقته يدور حول الحاجة إلى وجود شخصيات قوية وقادرة على فرض استقرار من مستوى معين يضمن للمؤسسات الحكومية أن تقوم بواجبها. ولهذا كانت مناطق مثل الشرق الأوسط، وأميركا الشمالية معرضة لسطوة أنظمة دكتاتورية تأخذ بزمام الأمور في أي وقت تعذر فيه على السياسيين المؤسساتيين حل مشكلة، أو تجاوز أزمة. وقد أشار توبي دوغ (2003) في كتابه الهام laquo;اختراع العراقraquo; إلى أن فشل الدولة العراقية في بناء صيغة وطنية لشرعية الحكم بعد الانقلاب على الأسرة الهاشمية جعل البلد في حالة من الاقتتال المستمر حول من يحق له حكم البلد. انتخابات عام 2005 و2010 أثبتت أن القدرة على بناء إجماع وطني يتجاوز المحددات الطائفية والعرقية لا تزال مبكرة. جل السياسيين العراقيين اليوم يلقون اللوم على تدخلات دول الجوار، وهو أمر صحيح، بيد أن التدخل الأجنبي هو أمر ظرفي وطارئ لمشكلة قديمة.

مشكلة شرعية الحكم ليست خاصة بالعراق وحده، فغالبية دول المنطقة تعاني من ذات الأزمة التاريخية، كل ما في الأمر أنه مطلوب من العراقيين أن يواجهوا هذا السؤال الآن قبل غيرهم. اللبنانيون، والسوريون وغيرهم أوجدوا حلولا مؤقتة، ليست مثالية ولكن من الواضح أنها تقوم بالمهمة. واليوم، ومع تأكيد الأميركيين عزمهم على الرحيل نهاية العام القادم، سيكون على العراقيين التأكد من قدرتهم على حل هذه المشكلة بطرق لا تضر بمشروع الدولة ككل. فماذا يفعل العراقيون؟

هناك إجابة كلاسيكية مفيدة لدى دارسي العلوم السياسية تقول: laquo;حكومة ضعيفة خير من نظام متسلطraquo;. العراق ليس بحاجة إلى رئيس وزراء قوي، أو أن تتمتع الحكومة المركزية بصلاحيات أكبر، بل إن الدرس الكبير الذي تفرضه حادثة البصرة، وغيرها الكثير، أن قدرة الحكومة المركزية في بلد متعدد الطوائف والعرقيات، على إدارة بلد كالعراق محفوفة بالفشل، ولهذا فإن الحل هو في إعطاء المحافظات المزيد من صلاحيات الحكم والإدارة، بحيث تصبح كل محافظة أو إقليم مسؤولا عن إدارة خدماته وشؤونه الخاصة. كلما تقلص دور الحكومة المركزية إلى حدود المهام السيادية، خف الصراع على من يحق له إدارة البلد، لأن تلك الإدارة بشكلها المخفف ستكون وظيفتها تسيير الأعمال وتحقيق التوافق لا التدخل في خلافات الطوائف والأحزاب المحلية.