احمد عمرابي
تقرير المصير.. الاستفتاء.. خيار الانفصال؛ هذه هي العناوين الأبرز اليوم على صعيد قضية جنوب السودان ومستقبله، مما يوحي بأن قيام دولة مستقلة كاملة السيادة لأهل الجنوب، أضحى قدرا محتما يتعين على أهل الشمال التسليم به.
ربما يكون هذا التسليم الشمالي نابعا من مشاعر تخوف وتوجس مبهمة، تجاه ما قد يأتي به المستقبل في حالة انتصار أهل الجنوب لخيار الاستقلال التام. ولكن أيا يكن الخيار الجنوبي، فإن على أهل الشمال أن يستحضروا في الأذهان أن ما يشاهدونه الآن من عد تنازلي نحو يناير عام 2011، هو الفصل الأخير في مسلسل طويل قبيح، امتد على مدى عقود زمنية متصلة، تحت مسمى laquo;مشكلة جنوب السودانraquo;.
ما هي الخلفية التاريخية لهذا المسلسل الذي توارثت مشاهدة حلقاته أجيال بعد أجيال في الشمال والجنوب معا؟
في التاريخ القريب يبلغ عمر المحنة حتى الآن 55 عاما، عندما اشتعلت شرارة التمرد الجنوبي الأول في عام 1955، عشية إعلان استقلال البلاد في العام التالي. أما في التاريخ البعيد.. فإن عمر المحنة بلغ الآن ما ينيف على 90 عاما.
وسواء في التاريخ القريب أو التاريخ البعيد، فإن الدعوة إلى فصل الجنوب عن الشمال كانت تتردد من حين لآخر.
عند أواخر القرن التاسع عشر، وتحديدا في عام 1899، دخل السودان عهد الاستعمار البريطاني. وعقب نهاية الحرب العالمية الأولى ـ وبالتحديد في عام 1920 ـ رسمت الإدارة البريطانية سياسة رسمية محددة، قوامها الأساسي العمل على تطبيق إجراءات هيكلية تنتهي إلى فصل الجنوب نهائيا عن الشمال. وفي مقدمة هذه الترتيبات؛ منع انتشار اللغة العربية والدين الإسلامي بين أهل الجنوب، ومنع دخول الشماليين المسلمين إلى هذا الجزء من البلاد.
على مدى 25 عاما متصلة، ظلت هذه السياسة موضع تطبيق حازم. لكن النتيجة في النهاية كانت صفرا. فقد توصلت الإدارة البريطانية بحلول عام 1945، إلى قناعة نهائية بأنه لا مستقبل مستقرا للجنوب إذا انفصل عن الشمال. ومن ثم قررت الإدارة البريطانية انتهاج سياسة جديدة، تقوم على أحد ثلاثة خيارات، هي:
* دمج الجنوب مع الشمال.
* أو دمج الجنوب مع بلدان شرق إفريقيا (تحديدا أوغندا وكينيا).
* أو دمج أجزاء من الجنوب مع الشمال.. والأجزاء الأخرى مع بلدان شرق إفريقيا المجاورة.
ولم يتبق عمليا سوى الخيار الأول، بعد أن رفضت الإدارات الاستعمارية البريطانية في بلدان شرق إفريقيا، انضمام جنوب السودان إلى تلك البلدان، بحجة أن جنوب السودان سوف يشكل عبئاً اقتصاديا وإدارياً ثقيلا عليها من فرط تخلف أهله.
وهنا يطرأ تساؤل: لماذا أسقطت الإدارة البريطانية من حساباتها خيار قيام دولة مستقلة للجنوب؟ لأنها توصلت، كما تقول، إلى قناعة بأن جنوب السودان لا يملك المقومات الأساسية اللازمة لإنشاء دولة مستقلة ذات سيادة.
ومن هذه القناعة توصل الحكام البريطانيون إلى قناعة أخرى، مفادها ألا مستقبل مستقرا للجنوب سوى الاعتماد على الشمال. وهذه القناعة الثانية هي التي تحولت إلى سياسة جديدة بشأن مصير الجنوب، ابتداء من عام 1947 قوامها بناء سودان موحد.
ورغم أن تطبيق هذه السياسة تواصل إلى أن انتهى عهد الإدارة الاستعمارية البريطانية، إلا أنه سرعان ما اشتعلت شرارة أول تمرد جنوبي في عام 1955 ضد الشمال.
لماذا؟ ربما لأن السياسة البريطانية الجديدة لم تحظ بقدر كاف من الوقت على صعيد التطبيق، ليتسع نطاقها وتتعمق جذورها. فعند جلاء القوات البريطانية من البلاد، لم يكن قد مضى على تنفيذ هذه السياسة سوى ثماني سنوات.
ورغم أن حركة التمرد الأولى تلك كانت محدودة، إلا أن بعض قادتها وكوادرها، وكانوا ضباطا وجنودا عسكريين، هربوا عبر الحدود إلى أوغندا وكينيا، مما أدى إلى تشكيل نواة لتنظيم مسلح اكتمل بناؤه خلال بضع سنين، فصار قوة قتالية تشن هجمات عبر الحدود على قوات الجيش السوداني.
كان واضحا أن هذه الحركة المسلحة التي كانت تستمد عونا عسكريا من إسرائيل ودول غربية، وعونا سياسيا من مجلس الكنائس العالمي، كانت ترمي إلى فصل الجنوب كتمهيد لإقامة دولة مستقلة هناك.
ظهر ذلك عندما انعقد في الخرطوم عام 1965 مؤتمر لإحلال السلام، باسم laquo;مؤتمر المائدة المستديرةraquo;، جمع بين القيادات الجنوبية وقيادات الأحزاب الشمالية. فخلال المؤتمر كانت القيادات الجنوبية تطالب بما أسمته laquo;تقرير المصير للجنوبraquo;.. وهو اسم مغلف لمطلب الانفصال. وانتهى المؤتمر إلى فشل تحت إصرار الجنوبيين على مطلبهم، وإصرار الشماليين على رفضه مع طرحهم، عوضا عنه، نظاما لقيام حكم ذاتي محدود في الجنوب.
وهكذا تجددت الحرب على أرض الجنوب بين قوات التمرد المسلح والجيش القومي، وتواصلت على مدى سبع سنوات أخرى، لكنها توقفت بعد أن توصل الجانبان، عبر وساطة إمبراطور إثيوبيا هيلاسلاسي، إلى اتفاق سلام في عام 1972 في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا.
غير أن الاتفاقية لم تشمل مطلب الانفصال، حيث نصت فقط على منح الجنوب نظام حكم ذاتي محدود.
لكن حالة السلام والوئام لم تدم سوى 12 عاما، عندما اندلعت حركة تمرد جديدة إيذانا بمولد laquo;الحركة الشعبية لتحرير السودانraquo; بقيادة جون قرنق.
فلماذا؟
التعليقات