جميل مطر

أقرأ لكتاب وصحافيين غربيين مقالات يحثّون فيها قادة النخب الحاكمة في بلادهم على إجراء تغييرات في النظام السياسي القائم في بلادهم . وصف أحد الصحافيين الأمريكيين حال السياسة في بلاده بأنها غبية، ومتسائلاً إن كان في الإمكان أن تحتفظ الولايات المتحدة بمكانتها كدولة عظمى إذا كانت سياستها الداخلية غبية إلى هذا الحد .

يجرني هذا التساؤل إلى مناقشة موضوع لا نهتم به كثيراً في بلادنا، وهو العلاقة بين السياسة الداخلية والسياسة الخارجية، والتأثيرات المتبادلة بينهما . أعرف أن كثيراً من المحللين السياسيين لا يهتمون كثيراً بالربط بين السياستين الداخلية والخارجية، فتخرج تحليلاتهم في الغالب قاصرة في أحسن الأحوال ومتجنية في أحوال أحرى .

المثال الذي يقدمه كاتب أمريكي ليدلل به على غباء السياسة والسياسيين في أمريكا يتكرر أمامنا في بلاد كثيرة، وإن اختلفت التفاصيل . يقول إن الإصرار على عدم تغيير مبادئ دستورية معينة أدى بمجلس الشيوخ الأمريكي إلى أن يخضع لنفوذ جماعة أو أخرى من جماعات الضغط يتوفر لها المال الكافي، الأمر الذي يؤثر بشكل حاسم في عملية صنع السياسة الخارجية الأمريكية .

لا توجد عدالة في توزيع المكانة بين أعضاء المجلس، فالعضو الذي يمثل ولاية صغيرة لا يزيد عدد سكانها على ملايين قليلة يساوي بصوته العضو الذي يمثل ولاية تعدادها يتجاوز الثمانين مليوناً . بمعنى آخر 41 سيناتوراً يمثلون 11% من سكان الولايات المتحدة يستطيعون منع إصدار قوانين يوافق عليها 95 شيخاً يمثلون 89% من الأمريكيين .

بمعنى آخر إذا استحوذت جماعة ضغط تمثل دولة أجنبية على أصوات 41 عضواً استطاعت التأثير بقوة على السياسة الخارجية الأمريكية . وهو ما يحدث بالفعل من جانب الأيباك .

من ناحية أخرى، ينتقد عدد متزايد من الأكاديميين والصحافيين إعتماد النظام السياسي الأمريكي على ldquo;شخصية الرئيسrdquo; كعنصر مهم من عناصر صنع السياسات وتنفيذها . مثلاً جاء أوباما إلى البيت الأبيض محمولاً على أكتاف حملة انتخابية ركزت على صفاته الشخصية، كاللون والفصاحة وصغر السن وطهارة اليد . وبعد أقل من عامين، كانت كل هذه الصفات قد فقدت أهميتها في ظل إخفافات عدة، وأهمها الفشل المريع في حرب أفغانستان والبطء الشديد في إنعاش الاقتصاد الأمريكي، لا يفوتنا أن المسؤولين عن صنع السياسات الخارجية في معظم الدول يهتمون بالتطورات الحاصلة في صفات رؤساء الدول الأخرى، يراقبون صعود شعبيتهم وهبوطها وتدهور صحتهم أو تحسنها لارتباطها بالأمن القومي للدولة، وبالتالي فهي ترتبط بالأمن الإقليمي والدولي .

***

أتصور أنه لا ديمقراطية أو تقدماً يرجى في دولة تحترم إلى حد التقديس دستورها ومؤسساتها وترفض طبقتها الحاكمة تطويرها أو تعديلها، في مثل هذه الدولة يكون الاستقرار السياسي في عداد الوهم الكبير أو الغطاء الذي تختفي تحته احتمالات، بعضها رهيب وأخطاء تتسبب في انحدار مستوى الأداء في السياستين الداخلية والخارجية .

فبالتحليل المتأني والهادئ لمسار السياسات الخارجية المصرية نكتشف أن تقديس أسلوب معين، بمعنى الإصرار على رفض تطويره أو تغييره، مسؤول بنسبة كبيرة عن أخطاء رهيبة، الآن نعترف بها، وندفع ثمناً باهظاً من ثروات مصر ومكانتها وسمعتها لإصلاحها أو إخفائها، وسيرتفع الثمن بمرور الوقت . كان سمة جيدة البطء المتعمد أو التروي في صنع القرار في الشأن الداخلي، ولكن فشل في أن يكون سمة جيدة حين تمدد ليصبح الأسلوب الأوحد في صنع السياسات الخارجية . لم نجد صعوبة في فهم حكمة التروي الشديد في الشأن الداخلي فمعدلات التطور الداخلي أصلاً بطيئة ومتدرجة، إلا أننا وجدنا، وما زلنا نجد، صعوبة في فهم حكمة البطء في صنع السياسة الخارجية، فالسياسات الدولية، سواء تعلقت بحروب وصراعات ومفاوضات ومؤامرات أم بتدفقات في التجارة واختراعات وزيارات، تتميز بالسرعة ولا تخلو من عناصر المفاجأة، مما يستدعي بالضرورة نشاطاً متواصلاً ومؤسسات مستعدة دائما ببدائل جاهزة وسريعة .

نعرف أن البدائل ليست سوى واحد من أساليب صنع السياسة الداخلية، بينما تكاد تكون السبيل الوحيد أو الأمثل في صنع السياسة الخارجية . ما نعرفه مثلاً عن عملية صنع السياسات الداخلية في مصر يؤكد أن أحداً لا يضع بدائل ليختار من بينها، وإنما ندخل تجارب واحدة بعد الأخرى، الأحدث تمحو إيجابيات ما سبقها . هكذا دخلنا نحارب النمو جميعاً من ليبرالية تعتمد الحس الوطني المعادي للاستعمار البريطاني إلى رأسمالية الدولة إلى أحد نماذج الاشتراكية، إلى إنفتاح سائب إلى ليبرالية متوحشة على أمل عمل تراكم يمهد لنموذج رأسمالي بوجه إنساني .

نستطيع أن نتحدث بإسهاب عن عواقب هذا التخبط في عملية بناء الأمة وفي صنع السياسة الداخلية على حالة مصر الاجتماعية والاقتصادية الراهنة، ولكن ما يهمنا الآن هو العواقب الناجمة عن نقل منطق العمل الداخلي واستخدامه في صنع سياسات خارجية وتنفيذها صنع السياسة الخارجية . هذه العواقب، هي تلك التي تتضمنها القائمة الطويلة التي تنشغل بها حالياً أجهزة الدبلوماسية المصرية، في جهود متواصلة و محاولات تكاد تبدو يائسة لتخفيفها أو مداراتها أو تأجيلها . نختار في ما يلي نماذج من هذه العواقب أو كما يحلو للبعض تسميتها نقائص:

أولاً: لا يوجد في العالم العربي أو خارجه أحزاب وتيارات وجماعات وهيئات تدعم داخل أوطانها السياسات الخارجية المصرية وتدافع عنها، كالحال بالنسبة لسياسات دول كثيرة منها السعودية وسوريا وrdquo;إسرائيلrdquo; وتركيا (الآن) وإيران وأمريكا، والحال بالنسبة لمصر نفسها خلال معظم عقود القرن العشرين حين توفر لها الدعم والتأييد في كثير من أنحاء العالم العربي وفي إفريقيا وآسيا . بينما، نجد في مصر حالياً أحزاباً وجماعات وتيارات وأفراداً بل ومؤسسات تابعة للدولة المصرية تروج لسياسات دول أخرى ومنها ldquo;إسرائيلrdquo; أو تدعمها .

ثانياً: كثير من صانعي السياسة والقرار في الخارج يتحدثون عن حالة عدم الاستقرار في مصر ولا يتحدثون عن حالة الاستقرار، ويخططون لبدائل بينها العمل على حث النخبة الحاكمة المصرية على إنهاء حالة عدم استقرار والانتقال بالسرعة الواجبة والحسم المناسب إلى مرحلة جديدة تتسم باستقرار سياسي حقيقي .

ثالثاً: صورتان لمصر في دوائر صنع السياسة في الخارج، تبدو في واحدة منها مكبلة بعلاقة مع الولايات المتحدة فشلت حكومات مصر في تعميقها لتصبح علاقة خاصة، أو في تطبيعها لتصبح علاقة عادية . وتبدو في الثانية مقيدة وطاقتها وأرصدتها الإقليمية مستنفدة باتفاقية ثنائية مع ldquo;إسرائيلrdquo; .

رابعاً: قناعة عامة داخل ldquo;جماعة السياسة الخارجيةrdquo;، التي تضم أكاديميين وممارسين ودبلوماسيين سابقين ومحللين سياسيين، بأن جيل الشباب من المتخصصين لا يعرف بالدقة ترتيب القضايا التي تشتغل عليها أجهزة صنع السياسة الخارجية المصرية . يعيبون على الدبلوماسية المصرية أنها تظهر حيناً أو حيث لا يحتاجها أحد، وتغيب أحياناً كثيرة ولمدد تطول وعن قضايا لا تحتمل الغياب، وإن نشطت فلتصحح وتشرح وتبرر .

***

حان الوقت لتحرير السياسة الخارجية المصرية من كوابح داخلية تبطئ حركتها وتحد من اتساع آفاقها، ومن قيود خارجية بعضها تفرضه المبالغة في تضخيم التزامات ناتجة عن اتفاقيتها مع ldquo;إسرائيلrdquo;، والبعض الآخر تصنعه أوهام في العلاقة مع الولايات المتحدة وحلفائها في العالم العربي .