منح الصلح


إن الحريرية تعيش حالياً فترة انبعاث مع الدور الذي يشقه سعد الحريري لنفسه بكفاءة مكرساً ما كان قد انطلق به والده من تحرك نهضوي
وإلى جانبه شريكه وابن مدينته السنيورة متكافلين متضامنين ..إنها الاندفاعة الثالثة بعد الميثاقية الأولى والشهابية جاءت تعزز رؤية المدن اللبنانية الثلاث: طرابلس وبيروت وصيدا ممثلة بوسطية رشيد كرامي وتقي الدين الصلح وسليم الحص الذين مثلوا جسر عبور بين رعيلين من رجال الحكم، فبعد الميثاقية الأولى مؤسِّسة لبنان الوطن الموحد الرافض والقادر على إنهاء حكم الانتداب، وبعد الشهابية المتعسكرة المطعمة بالمكتب ثانية ولكن الأمينة في الوقت ذاته لفكرة الدولة .. كان لبنان السياسي بحاجة إلى وثبة سياسية جديدة تضع رجليه على الأرض ، وتصرفه الى بناء دولة جديدة ومدعومة بموارد دولية خارجية وعربية بالذات فظهر هكذا بعد الصلح وكرامي اسم رفيق الحريري كشخص لافت، ناجح بالتجربة في ميدان الأعمال والعلاقات ومدعوم عربياً، ومؤمن بتسريع خطى لبنان الدولة والمجتمع بعدما لم يعد كافياً للبنان اللجوء الى الميثاقية التأسيسية للبنان المستقل، أو الى الشهابية المجددة ذات الصلة بالبزة العسكرية.

وفي هذا الجو كان من الطبيعي أن يفسح المجال لما يمكن أن يسمى بالحريرية المؤلفة يومذاك من رفيق الحريري ومعاونه الصيداوي فؤاد السنيورة المثقف ثقافة سياسية ووطنية وأكاديمية متطورة... لم يكن سليم الحص كرئيس حكومة إذاك بعيداً بالكامل عن هذه المستجدات، ولكن السفينة الحريرية المنطلقة كانت بمقودين فقط واحد يمسك به بحذق ومهارة رفيق الحريري وآخر يمسك به صديقه المثقف قومياً والمجرّب أكاديمياً فؤاد السنيورة.

لم يكن السنيورة حريرياً فقط، بل إن الحريري بدا وكأنه متأثر بصديقه الصيداوي أيضاً، أما المستفيد الأول فهو الأمل اللبناني المعلق بالتغيير على أيدي ناشطين فاعلين صاحبيْ طموح لوطنهما الواحد بالتقدم والعصرنة. هكذا بدت الحريرية منذ ظهورها سنيورية الى حد ما، كما السنيورية حريرية بالنسبة الكبرى.

ثلاثة من الناجحين المؤهلين ظهروا في مسار السياسة اللبنانية رفيق الحريري ، وابنه اللامع موضع أمله دولة الرئيس سعد الحريري ، ورئيس الوزراء السابق فؤاد السنيورة، وما الحريرية إلا مذهب الثلاثة وإلى حد كبير صارت مذهب آخرين أيضاً ناشطين ولامعين في حياتهم السياسية على طريقتهم كالرئيس سليم الحص.

إن الحريرية تعيش حالياً فترة انبعاث مع الدور الذي يشقه سعد الحريري لنفسه بكفاءة مكرساً ما كان قد انطلق به والده من تحرك نهضوي وإلى جانبه شريكه وابن مدينته السنيورة متكافلين متضامنين بل ناجحين في تحويل quot;الحريريةquot; الى ركيزة ثالثة بعد ركيزتين تأسيسيتين سابقتين لبناء الوطن وهما الميثاقية الاستقلالية في العام 1943 بقيادة بشارة الخوري ورياض الصلح ، ثم الشهابية الاصلاحية صاحبة النقلة بلبنان الى نوع من مفهوم الدولة الصالحة والقادرة، كان قد نادى به اثنان تقي الدين الصلح، ورشيد كرامي كل واحد منهما على طريقته.

هكذا يمكن القول إن لبنان بشكل أو بآخر لم يستمر سكران مكتفيا بالديمقراطية التي أهدته إياها فرنسا المنتدبة عليه بقرار من عصبة الأمم، والمبشرة بالنظرية الرائجة يومذاك التي تقول إن الديمقراطية تطبب نفسها بنفسها فما على لبنان إلا أن يدمقرط نفسه فتكون فيه صحف وحريات وانتخابات وجدل داخلي بين طوائفه ومناطقه ليكون كاملاً ، ومودعاً باعتزاز وجدية مقولة بعض اللبنانيين الشهيرة quot;إن قوة لبنان في ضعفهquot;، وهذا ما لم يقنع الكثيرين.

ولابد من القول إن الفكر السياسي السائد في عهد الانتداب كان يروّج دائماً لمقولات مثل هذه تصرف اللبنانيين عن كل فكر نهضوي وتبقي لبنان فريسة لنرجسية سطحية غير ذات صلة بنزعة التقدم الحقيقي للأوطان.

من هنا كان لا غنى للبنان عن أن تقوم فيه كما رأينا منذ مدة ، وبالامس القريب دعوات لإقامة ركائز بنيوية مدنية تمد النظام الديمقراطي بالقدرة والمناعة وتصله بحقائق المجتمع اللبناني التعددي وبالتالي المحتاج إلى أن يكون متماسكاً في مواجهة نقائص الواقع وعصف الانواء الخارجية.

إنه من السطحية والسخف التهليل الساذج للديمقراطية اللبنانية وكأنها عباءة سحرية ما ان استوردها لبنان والتف بها حتى تحول الى زينة الأوطان في المنطقة العربية التي هو منها وفيها.

وهكذا فلبنان في رأينا مدين لا للديمقراطية المستوردة التي اختارها أو اختيرت له بإرادة خارجية فرنسية انتدابية مشكورة، بل هو مدين أيضاً وبامتياز لركائز وطنية مدنية داخلية مساندة أنشأها هو وزعماؤه ومجتمعه وشعبه عززت ديمقراطيته الوافدة ومكنتها في التراب الوطني معطية لبنان صفة الوطن المستحق بأن يتغنى بنفسه لا كوطن مستورد للديمقراطية بل كوطن جدي مؤمن بالديمقراطية ، مصمم بجدية على ان لا يكون للاستعمار مقراً أو ممراً، بل يكون وطناً عزيزاً مستقلاً حراً يستسيغ الخير النافع من حضارة الغرب. وليس المهم أن لبنان وصف نفسه منذ مطلع الاستقلال انه كذلك، بل المهم أنه نجح في أن يقيم لهذه الديمقراطية التي احبها ركائز من صنعه وصنع رجالاته جعلت من الديمقراطية اللبنانية اكثر من أغنية بحيث استطاعت أن تبقى وحدها بين التجارب الديمقراطية التي مرت بها دول شقيقة ثم لم تحتفظ بها.

لقد عاشت الديمقراطية في لبنان وقويت على الزعازع لا لأن كلمة الديمقراطية مطربة للآذان ولا لأنها زي المتقدمين في هذا العصر، بل عاشت لأن لبنانيين كباراً رفدوها بركائز مدنية رسختها في الأرض ولولا هذه الركائز لكانت العواصف الخارجية والدولية اقتلعتها في هذا الوطن كما اقتلعتها في العديد من الأمكنة.

كانت الركيزة الأولى التي حضنت الديمقراطية اللبنانية ضد الاقتلاع هي الميثاق الوطني اللبناني في العام 1943 وبطلاه بشارة الخوري ورياض الصلح فهذا الميثاق المبلور للإرادة اللبنانية الجامعة والذي رأى فيه الشعب اللبناني حزاماً لوحدته، وتمسكاً باستقلاليته وعروبته في الوقت نفسه جاء هذا الميثاق الحامي الفكري والمعنوي لأثمن هديتين في الوطن: الاستقلال والعروبة، فكل اللبنانيين هم مبدئياً وعلى مر الزمن لبنانيون سياديون وعرب منفتحون.

كما كان فؤاد شهاب غير معجب كما يعرف بطريقة من سبقوه الى السلطة في الحكم فجعل الكتاب أي الدستور هو صاحب الكلمة الفصل وما وظيفة الحاكم إلا التطبيق.

وقد سميت طريقته في الحكم quot;النهجquot; بمعنى أن التشريق والتغريب في المرجعيات ، وطريقة الحكم كانا قد زادا عن المعقول والمقبول.

أما الركيزة الثانية للديمقراطية بعد الميثاقية والشهابية فهي الممارسة الحريرية للسلطة، فقد جاء رفيق الحريري الى الحكم والفشل ممنوع لأنه سيكون وبالاً على النظام اللبناني الذي لن يتحمل نكسة مثلما هو لا يتحمل استمرارية quot;الأحوال كما هيquot;. وقد ترك الحريري ومعه سليم الحص وفؤاد السنيورة انطباعاً جيداً في تحسين مفهوم الحكم قصداً وأسلوباً. وأصبح في البلد منذ تلك الأيام كلمة هي الحريرية، وquot;الفلسفةquot; التي وراءها تنفيذ وثبة سياسية جديدة تضع قدميها على الأرض وتعمل على بناء دولة جديدة مدعومة بموارد دولية خارجية وخصوصاً عربية تعمل على تسريع خطى لبنان، وظهر اسم رفيق الحريري كشخص ناجح بالتجربة كرجل أعمال ومدعوم عربياً وقادر على تسريع خطى لبنان والمجتمع بعدما لم يعد كافياً التطلع واستحضار الميثاقية الاستقلالية الأولى والشهابية.

وهكذا كان مجيء الحريري الأب وبعده ابنه الواعد ضرورة ضاغطة للديمقراطية اللبنانية التي لا تكفي بذاتها لضمان سير المسيرة اللبنانية الى أمام ولا غنى لها عن ركائز مساعدة كالميثاقية والشهابية والحريرية ndash; رفيقها ثم سعدها ndash; وكما قال البعض ليس بالديمقراطية اللبنانية وحدها وغير المنشطة بالركائز المجربة يسلم لبنان ويدوم ويسير الى أمام.