محمد عبدالله محمد

تُقيم اللغات واللهجات ومشتقاتها الفرعية أنظمة للتواصل بين البشر. وما بين اختصاص كلّ لغة بأفرادها يُنْتَجُ الفرز الإثني والقومي. وحين يتحقّق ذلك يظهر مُصطلح laquo;الأناraquo; و laquo;الأغيارraquo;. فحين يتحدّث الناطقون بلغة ما فإنهم يتمثّلون على أنهم قوم مُختلفون عما هو بجوارهم. وحين يُصبح ذلك تراهم يَجرُّون كل حرف إلى حيث انتمائهم الأشمل والأعمّ فيُصرّون عليه دون سواه.

في العض على نواجذ اللغات ومشتقاتها يظهر التعصّب. فيخرج الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك من قاعة اجتماع اقتصادي ضخم احتجاجاً على مشاركة أحد رجال الأعمال الفرنسيين بكلمة قالها باللغة الإنجليزية. وتُحجِم المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل عن بدء مؤتمرها الصحافي بغير اللغة الألمانية حتى في ظلّ غياب المُترجِمِيْن الفوريين وبروز أزمة بروتوكولية.

وأحياناً تصبح اللغة ولهجاتها مجالاً لتمدّد النفوذ. فاللغة الإنجليزية يتحدّث بها 400 مليون إنسان فقط، لكنها باتت اللغة العملية الأولى في العالَم. الفرنسيون طمحوا في أكثر من ذلك. فقد أسّسوا لهم رابطة سمّوها بالفرانكفونية لترسيخ نفوذهم السياسي والثقافي على المسرح الدولي. رغم أن الناطقين بها هم فقط في فرنسا وبلجيكا وسويسرا وخمسة عشر بلداً إفريقياً، ودول المغرب العربي، وكندا ولويزيانا وجزر غوادالوب ومرْتينيك ورِييِّنيون ونثاراً هنا وهناك قد يكون كثيراً أو قليلاً.

وفي أحيان أخرى يتحوّل التعصب إلى حدّ التجيير في النزاعات. فخلال الحرب الأهليّة اللبنانية كانت بعض التنظيمات المسيحية قد ابتكرت لنفسها طريقة لفرز أعدائها من الفلسطينيين عن غيرهم. فكان رجال الحواجز التي تقيمها تلك التنظيمات يُخرجون الطماطم أمام العابِرِيْن ليستنطقونهم عن اسمها. فَمَن نَطَقَها (بَنَدُورَة ndash; بفتح النون) عُرِفَ أنه لبناني فيُطلَق سراحه. ومَنْ نَطَقَها (بَنْدُورَة ndash; بتسكين النون) عُرِفَ أنه فلسطيني فيُعتقل أو يُعدَم.

ولكن وفي أحيان كثيرة وحين تستقرّ الشعوب بعد الإدماء فإنها تلجأ في العادة إلى ملء الفراغ الوطني عبر لغاتها ولهجاتها. فبعد العام 1830 بدأت القوميّة في أوروبا تنمو بشكل هادئ. وكان ذلك النمو مدفوعاً بعنصر اللغة التي وطّدت من اللُحمة الوطنية للشعوب، وبالخصوص تلك التي خاضت معارك الوجود والإلغاء، أو تلك التي تورّطت في حروب دينية بائسة طيلة قرنين من الزمن.

في ألمانيا باتت الكتب الصّادرة باللغة الألمانية حينها قد تجاوز الـ 90 في المئة، الأمر الذي يعني أن ما كان يُنشر هناك باللغة الفرنسية قد وصل إلى 4 في المئة فقط. وعندما وصل الاعتناء باللغة إلى درجة الالتزام الوطني أصبح الفارق ما بين الصادر في العام 1821 والعام 1841 هو ثمانية آلاف كتاب، بمعنى وصول المعدّل إلى ضعفين تقريباً حسب إفادة المؤرخين.

هذا التفصيل يُحيلنا إلى فهم الواقع العراقي من منطلق ما يلهَج به الناس من حديث مشكوك في انتمائه هناك. فالمشكلة التي حصلت في العراق بعد غزوه هي أن العراقيين الذين كانوا مُغيّبين طيلة عقدين من الزمن عن تطورات العالم السياسية والثقافية وحين انفتحت عليه أبواب الدنيا والحدود، أرتدّت ذواتهم واحتمت بأصول انتماءاتهم القديمة.

وضمن هذه المعادلة الحسّاسة وفي مثل هذه الحالات فإن الأمور عادة ما تئول إلى حيث الانتماء الديني الأوّلي، بالضبط كما جرى للإسبان حين عرّفوا أنفسهم بالكاثوليك، والروس بالأرثوذكس في حقبة ما من الصراع الأوروبي الأوروبي والنزاعات الأهلية. وعندما يصِل الأمر إلى هذا الانحدار، فإن اللغة عادة ما تلتصق بالقيم الدينية المذهبية المتوترة وأدبياتها، وهو ما حصل إلى حدّ بعيد في العراق بعد الغزو الأميركي له.

وخطورة ذلك في بلد كالعراق الذي لا يحكمه منطق الأغلبيات والأقليّات فقط، وإنما تحكمه ظروف المجتمع المباشرة واليومية. فإذا كانت ثلث الزيجات فيه مُختلطة فإن نسبة التأثير من منطلق لغوي طائفي تُصبح كبيرة جداً. حيث يغيب مفعول الدّم والقُربى لصالح مفاعيل جديدة وطارئة لكنها أكثر سطوة كالمذهبية وما يحكمها من لسان مفروز.

في جانب آخر من الموضوع، فإن وَسْم الدولة وخطابها الرسمي وجهازها التنفيذي بطريقة تُوحي بأنها تميل إلى كفّة مذهبية دون سواها، يجعل من القيم الوطنية أكثر بُؤساً وأكثر وضاعة في أعين الناس. فالوطنية لا تترشّد إلاّ باتّساع الوطن عليها. وحين يُدرك أحدهم أن البلد لا يحميه، ولا يستر ساقه العارية، فإنه لن يتورّع في ركله وتدنيسه جهاراً.

وقد يُصبح الأمر أكثر تعقيداً حين يرتبط ذلك النحت المذهبي على جسم الدولة بالطبقة الحاكمة التي تتولّى أمور المواطن. فتمثّلها على هيئة طبقة ناظمة للسياسة، أو أنها طبقة وسطى تستطيع أن تتحمّل وتمارس آليات تسيير شئون الوطن، يجعل من هذه الطبقة غير مُرحّب بها، ومحل شكّ دائم. وربما تصبح المدخل إلى تشويه مركز الدولة واتجاهها.

وهذا الأمر قد تكرّر في التاريخ عدّة مرات. فقد فشِل الثّوريون البولنديون في استمالة الطبقات الفقيرة حتى مع وعود الإصلاح الزراعي قبل مئتي عام. وكذلك الأمر تكرّر في غاليقيا بالرّغم من إلغائهم (الراديكاليون) لنظام الرّق. بل إن هؤلاء الفقراء بدأوا في الانحياز للأنظمة المحافظة والرجعية وللكنيسة البابوية.

غاية الأمر ومنتهاه في هذا القول، هو إعادة ترسيخ ثقافة عابرة للطوائف في العراق، وبالخصوص في جسم الدولة العراقية. والاستفادة من التاريخ. لأن تثوير مثل هذه الأنوية، هو بمثابة خلايا سرطانية، ستكون قادرة على الانتشار والتوسّع. حينها سيكون الجميع غير آمن في أن يدفع ما قدّره وما لم يُقدّره من أكلاف وأثمان.