محمد أبو الفضل


قل ما شئت عن السياسة الخارجية المصرية من مدح ونقد، تقدم وتراجع، تفاعل وتهميش، لكن يصعب الخلاف على أنها تتحلى بدرجة عالية من الواقعية ومحاولة التعامل مع المعطيات على صورتها الحقيقية، من دون اعتبار لنوازع أيديولوجية أو تقديرات لحظية. الأمر الذى يعتبره البعض انعكاساً لما يوصف بالاعتدال الذي تتسم به التوجهات المصرية عموماً، في حين ينظر إليه آخرون على أنه دليل الافتقار إلى المبادرة ومحدودية التأثير الإقليمي. وبدأت تجليات الاستنتاج السابق تظهر بوضوح مع السودان. فخلال الأيام الماضية تكشفت ملامح متعددة أكدت حرص القاهرة على تدعيم علاقاتها مع جوبا، عقب الإمساك بشواهد محددة أشارت إلى اتجاه جنوب السودان نحو الانفصال، على أثر إجراء الاستفتاء على تقرير المصير المتوقع إجراؤه مبدئياً في كانون الثاني (يناير) المقبل، على رغم شكوك متبادلة بين الخرطوم وزعامات الجنوب.

كان تدشين خط طيران مباشر من القاهرة إلى جوبا في 6 آب (أغسطس) 2010، إحدى العلامات البارزة التي تعزز الدفء الظاهر في العلاقات بين مصر وحكومة جنوب السودان، والتي سبقتها وستحلق بها تصورات وتصرفات مختلفة. جميعها تصب في مربع الرغبة المشتركة لتوطيد الأواصر بين الجانبين. مثل زيادة تدفق المساعدات الإنسانية والغذائية وتكثيف المشاريع الاقتصادية المصرية، مع تركيز على إنشاء وترميم البنية التحتية في جنوب السودان. وفتح المجال لاستقبال وفود جنوبية في مجالات التدريب والدراسة واكتساب الخبرات، بصورة تفوق ما كانت عليه خلال السنوات الماضية. ومعظمها يتم بطريقة مباشرة، أي من دون المرور عبر قناة الخرطوم.

يشير الوصول إلى هذه النقطة الى ثلاث نتائج أساسية: الأولى، ان مصر على استعداد تام لتقبل خيار الجنوبيين في الانفصال. وقد أفصحت قيادات في أوساطهم أخيراً عن تلقي تطمينات في هذا الشأن من القاهرة. والثانية، سعي الحركة الشعبية إلى تكوين شبكة أمان إقليمية ودولية أيضاً، وتوسيعها لكي تدافع عن مكتسبات السلام، طمعاً في توفير الهدوء والاستقرار لمنطقة حافلة بالصراعات، أو أملاً في تحاشي المزيد من المشاكل التي لها روافد إقليمية مؤثرة. والثالثة، حرص مصر البالغ للحفاظ على مصالحها الاستراتيجية، بعيداً من التمسك بثوابت تقليدية، لعبت دوراً مهماً في رسم سياساتها نحو السودان. وكان تراجع الدفاع عن وحدة هذا البلد في مقدمها، بل تبذل جهوداً لتذويب شقة الخلافات بين شريكي الحكم، حزب المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، للانتهاء من اتمام مهمة الاستفتاء في أجواء مواتية.

فى هذا السياق استضافت القاهرة يومي 2 و3 آب (أغسطس) 2010 الجولة الثانية للحوار بين الشريكين اللدودين. ترأس وفد المؤتمر الوطنى مساعد رئيس الجمهورية نافع علي نافع، بينما ترأس وفد الحركة الشعبية أمينها العام ووزير السلام في حكومة الجنوب باقان أموم، الذي قام بنشاط صحافي وسياسي أثناء وجوده في القاهرة ومارس هوايته في تأكيد التوجه نحو الانفصال وانتقاد تصرفات حزب المؤتمر الوطني.

وناقشت اجتماعات الشريكين ورقة مصرية تعرضت لجملة من القضايا التي يمكن أن تعوق إجراء الاستفتاء على تقــرير مصيـــر الجنوب، وحاولت التوصل إلى حلول وتفاهمات للحفاظ على اتفاقية السلام الشامل والخروج بها إلى بر الأمان، في ظل العقبات التي تلاحقها على الأرض.

مع أن هذه الجولة جاءت استكمالاً للجولة الأولى التي عقدت في شباط (فبراير) الماضي، غير أن البيان الختامى للأخيرة أشار إلى أن مشاورات القاهرة مكملة للجهود التي تقوم بها اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الافريقي، والتي بدأت أعمالها في كل من الخرطوم وجوبا في تموز (يوليو) الماضي، مستهدفة الوصول إلى تفاهمات حول إجراء الاستفتاء وترتيبات المرحلة التالية في شكل موضوعى وهادفة الى الانتقال من المرحلة الحالية (الانتقالية) لاتفاق السلام الشامل إلى الحالة الجديدة التي سيفرزها الاستفتاء.

ويعود الاهتمام الكبير الذى وجدته الجولة الثانية من المسؤولين في كل من مصر والسودان، إلى عقدها وسط مناخ سيطرت عليه هواجس عدم إجراء الاستفتـــاء فـــي موعده... وفي خضم سلسلـــة من التراشقات المتبادلة بين شريكي الحكم في السودان، أوحت في إجمالها بإمكانية العـــودة إلى الحرب الأهلية. كما أن تراكم المشكــلات السودانية، الداخلية والخارجية، وفّر تربة خصبة للحديث عن سيناريوات قاتمة تنتظر السودان.

يمكن القول إن اهتمام القاهرة بالجولة الثانية من حوار شريكي الحكم في السودان مبعثه، قطع الطريق على الاستمرار في سياسة حافة الهاوية التي أصبح يتبعها الجانبان، لأنها ستتسبب في خلط كثير من الأوراق الإقليمية، التي ستنعكس سلباً على مجموعة كبيرة من المصالح المصرية في السودان وما وراءه من امتدادات في دول حوض النيل. كما أن القاهرة أرادت بهذه الرعاية تحقيق هدفين: الأول، دحض الاتهامات التي راجت أخيراً حول تقاعسها عن التفاعل مع قضايا السودان وعدم معرفة خباياها. وأكثرها خطورة جاء على لسان وزير خارجية السودان علي كرتي قبل نحو شهرين. والثاني، حدوث المزيد من الاقتراب مع شريكي الحكم، خصوصاً أن الأسابيع الماضية شهدت ما يمكن وصفه بالفتور بين القاهرة والخرطوم، بعد الحفاوة التي استقبل بها زعيم حركة العدل والمساواة خليل إبراهيم في القاهرة قبل أسابيع عدة. علاوة على أن مصر تريد التأسيس لروابط متينة مع الحركة الشعبية، تحسباً من تداعيات سيناريو الانفصال المنتظر، من طريق الاستفتاء أو قفزاً عليه.

إذا كانت الواقعية المصرية أثبتت جدواها في بعض الملفات الإقليمية والدولية، فإنها في حالة السودان تبدو محفوفة بتحديات دقيقة، لأن الانعكاسات السلبية لما سيحدث في هذا البلد على مصر ستكـــون كبيرة وعميقة، والعكس صحيح.

من هنا يأخذ كثيرون على التحركات المصرية الراهنة افتقارها إلى سلاح المبادرة. فالواقعية لا تعني التعامل مع المعطــــيات كما هي من دون تدخل أو توجيه، بل تستوجب طرح أفكار ورؤى جديدة والعمل على تنفيذها، بما يتواءم مع طبيعة المصالح الاستراتيجية. وظلت مصر (ولا تزال) أسيرة لحسابات تاريخية عقيمة، جعلت علاقاتها مع السودان محشورة في خندق الحساسية المحزنة، في شكل مهد الطريــق لجهات مختلفة للتدخل في السودان والتلاعب بعدد معتبر من قضاياه الحيويــــة. وربما تكون التهديدات الخطيرة التـــي تحيط بالسودان حافزاً لمصر لإعادة النظر في سياستها الواقعية معه، حتى لا يكون لقمة سائغة للآخرين للتحكم في مفاتيحه السياسية ورسم خريطته الجغرافية. ففي بالأمس حصل الجنوب على حق تقرير المصير واليوم تطالب حركة العدل والمساواة وقبلها حركة تحرير السودان (جناح عبدالواحد نور) بتطبيقه في دارفور، وغداً؟