محمود حيدر

من يعاين الصورة اللبنانية على مدى سنوات خلت، سيجد كيف كانت تنسل النخب الثقافية ببطء من بين حقول العنف أملاً بدور، أو طلباً لمكانة. حتى إذا بلغ تعب الطوائف حدّه الأقصى.

عثرت هذه النخب على حقولها الخصبة في دنيا laquo;العمل السياسي السلميraquo;. ومن حسن طوالعها، أن قوى الحرب المؤتلفة ضمن الدولة، وقع اختيارها على تلك الشرائح المحظوظة من المجتمع الثقافي.

لقد رنت هذه القوى لتؤلف من تلك الشرائح سلاحاً إضافياً، بوصفها كتلة أيديولوجية ذات مران وتجربة. فهي بالنسبة إليها نخبٌ بارعة في تسويغ الزمن السياسي الجديد، وتبرير أفعال وشعارات الزعامات الطائفية.

وهكذا فقد استحضرت كل طائفة سياسية من يناسبها من مثقفيها وكوادرها، ليكونوا عوناً لها في الصراع المحتدم على سلطة الدولة.

وعلى هذا النحو سيظهر لنا المشهد التالي: laquo;سلطة الطائفةraquo; تصطحب معها عدّتها الثقافية وعديدها في رحلة المشاركة في إنتاج السلطة، ثم تحيلها بعد وقت قليل إلى كتلة جامحة تروح تتوغل بخطى سريعة في هياكل الدولة ومؤسساتها، فتتحول هذه الأخيرة (أي الدولة) إلى ما يشبه منظومة اتحادية لطوائف سياسية متنوعة الوجوه والأشكال.

لقد بدت الرحلة، منذ اتفاق الطائف 1989 وصولاً إلى اتفاق الدوحة 2008، على صورة تاريخ راقص يكرر ذاته بلا انقطاع. فهذه الرحلة لم تملك أن تتجاوز لعبة خَبِرَها اللبنانيون على امتداد سنين طويلة، إذ في غضون فترة قصيرة أخذت تتوضح معالم حياة.

لا جديد فيها سوى أشخاص وأحداث وشعارات ومظاهر لثقافة سياسية باهتة. حتى السلطة التي تآلفت عناصرها تحت ظلال المؤسسة الدستورية، بدت كمولود من الماضي.

ولقد شعر اللبنانيون، ومثقفوهم على الخصوص، أن في الأفق المقبل ما يشي بخيبة، إذ إنهم يعرفون بالحدس والمعاينة أن السلطة، أي سلطة، إنما هي على الدوام رمزٌ للإغواء، فهي سرعان ما تتحوَّل إلى جهاز بوليسي يمنع ويقمع.ومن البداهة، أن تصبح النخبة المتطلَّعة بشغف إلى مواقع النفوذ، جهاز منع وقمع إضافي من أجهزة السلطة الأهلية الطائفية.

ولسوف نتعرَّف من خلال ما حملته إلينا سنوات ما بعد الحروب الداخلية المتعاقبة، إلى أنه عندما يصبح نظام الطائفة هو نفسه النظام الطائفي الحاكم، تصبح السلطة الناجمة عنهما أدنى إلى هيئة اقصائية لكل ما هو laquo;غيرraquo;، ونافية بالضرورة لكل ما هو خارج قيمها، ومصالحها، وثقافتها، وخطابها اليومي..

من هذه الجدلية المضنية، سوف يولد أسلوب عيش في الثقافة والسياسة، غايته القصوى ضبط كل محاولة تسأل أو تشكك في المنظومة السائدة. ولنا شواهد بيَّنة على ذلك.

في ما يحصل من ربط للمجتمع الثقافي بأغلال الطائفيات السياسية المتنوعة، سواء عن طريق احتواء الصحافة ووسائل الإعلام، أو عبر السيطرة على مؤسسات المجتمع المدني وتحويلها إلى مرسِّخات إضافية للمجتمع الأهلي الطوائفي.

هكذا سينشأ ما يمكن نعتُهُ بـ laquo;الإيديولوجية الحادة للسلم السياسيraquo;. تلك الإيديولوجية التي ما لبثت أن نمت واستشرت في الحقول اللبنانية المتعبة، وكانت غايتها أن تجلب للناس اليقين بأنهم قد بلغوا جنة الوطن المأمول.

بل أكثر من ذلك، فإن النخب التي تولت التغطية الإيديولوجية، راحت تحرم الشك والسؤال، مثلما عمدت إلى التشكيك في أي بادرة احتجاج من جانب قوى المجتمع المدني، وترى إلى أي اختلاف فكري أو ثقافي بمثابة مسعى للفوضى والحرب الأهلية.

ولسوف نقع على شواهد من ذلك لا حصر لها، خلال فترة التسعينيات وحتى بدايات العام 2000، حيث انخرطت الطوائف السياسية على الجملة في ما يشبه العزف الجماعي على إيقاع ثقافة توازن المصالح وتوزيع المغانم..

لقد تبين أن اتجاهات القرار الذي تصدره الهيئة السياسية الطائفية، لم يكن سوى ترجمة مطابقة لرؤية المؤسسة الثقافية الأيديولوجية، التي تجري بواسطتها إعادة إنتاج ثقافة المجتمع كله.

وبهذا استحالت هذه الثقافة أشبه بأوعيه متصلة من الخطب الثقيلة، تروح تؤسس للحياة السياسية وتعيد إحياءها من جديد، فيما انبرى العاملون في حياضها يشتغلون كدعاة يمنحون الزعيم الطائفي شرعيته ومجده وسلطانه المترامي الأطراف.

هكذا انبرت الهيئة السياسة في زمن ما بين الحروب والأزمات المتناوبة، للسيطرة على أحياز المجتمع المدني (جمعيات أهلية ـ اتحادات ومنظمات نقابية ـ منابر ومؤسسات ثقافية وإعلامية ـ فرق كشفية ورياضية.. إلخ).

وقد جرى هذا كله، مدفوعاً برغبة الاستيلاء على مواطن الاجتماع الثقاقي، والقبض على احتمالاته. وكل ذلك على أساس شعور أكيد بأن أحياز المجتمع المدني ـ التي أشرنا إليها ـ ما هي بالنسبة إلى السلطة الطائفية، إلا بؤر ومستوطنات سوف تشكل بعد وقت، مجالات للثورة المضادة على سلطة الطوائف. أو قد تكون ـ حسب بعض مثقفي السلطة الطائفية ـ بؤر توتر أو موطناً للإرهاب.

وعلى سبيل المثال، فإن ما اصطلح عليه بlaquo;المال السياسيraquo; دخل بقوة لتحقيق هذه الرغبة. فها هو سحابة عقدين من اتفاق الطائف لا يزال يوطد تحالفاته بالعائلات والطوائف، ضمن تآلف سياسي اجتماعي شديد الوطأة.

ولقد نجم عن هذا التحالف استئناف تفكيك المجتمع المدني، أو ما تبقى من عوامل استمراره. على أن النتيجة الإجمالية كانت اختلالاً مروِّعاً في نظام القيم، ودفعاً بالبلاد إلى الخواء وانعدام الوزن.

ومن الزواج المنافق بين طوائف الحرب والمال السياسي المحدث، ونتيجة غلبة الأخير، ولد المال الثقافي كوسيلة فضلى لتفكيك ما تبقَّى من أواصر المجتمع، وهو ما سَّهل على السلطة الطائفية مهمة تفكيك وإعادة ترميم الجسم الثقافي وفق مشيئتها. ولقد كان لها ما أرادت، بسبب الوهن الذي لحق به وهو يغادر أزمنة العنف.

اليوم، لا يزال الجسم الثقافي اللبناني يمكث في مرحلة انتقالية، هي في غاية الحساسية والتعقيد. إنه كمؤسسة ثقافية، إما في حالة حصار وغربة، أو في حالة انكفاء ونكوص يتآكلها الكسل والترهل والتشظِّي، وهو كأفراد يبدو على النحو إيَّاه من البهتان.

ذلك أنَّ سلطات الطوائف قد أبلت بلاءها الحاسم، إذ حوّلت تلك المؤسسات، منازل ودواوين لشعائرها وشعاراتها وخطاباتها المضجرة.