حازم صاغيّة


في إشارة تقلّ نظيراتها إلى رجاحته الذهنيّة، انتقد فيديل كاسترو الرئيسَ الإيرانيّ محمود أحمدي نجاد بسبب إنكاره المحرقة النازيّة لليهود. فالزعيم الكوبيّ، المنسحب من تسيير أمور السياسة والحكم، يبقى، على رغم كلّ شيء، ماركسيّاً. والماركسيّة، على رغم كلّ شيء، تبقى منها أوروبيّتها. فهي، في معزل عمّا ألحقه بها الشعبويّون والستالينيّون والمنكبّون على مناهضة أميركا، تحتفظ بصلة بالتنوير والعقل والمعرفة لا تحتمل نجاد وraquo;طالبانraquo; والمقاومة العراقية لمجرّد أنهم... مقاومة لأميركا! وبدوره فكاسترو، على رغم إنشائه نظاماً غير أوروبيّ بالمرّة، أي غير ديموقراطيّ، وعلى رغم توريثه أخاه...، لا يستطيع أن يكون، في مقدّماته الفكريّة والنظريّة، محمود أحمدي نجاد.

الفارق الآخر أنّ يساريّة كاسترو تستنهض في وجهه قوى ودولاً وتيّارات وأفكاراً، لكنّها لا تستنهض الأديان إلاّ بوصفها كنائس ومؤسّسات تزعجها سياساته. أمّا دينيّة أحمدي نجاد، أو دينيّة مرتكبي 11 أيلول، أو laquo;القاعدةraquo;، أو laquo;طالبانraquo;، أو المجاهدين الأفغان من قبل، فتستحضر، في مواجهتهم، معتوهين ومرضى من صنف ذاك القسّ الأميركيّ الذي كان ينوي إحراق القرآن قبل أن laquo;يعلّقraquo; قراره المجنون.

فما الذي يسهّل على المتعصّبين والمهووسين تجرّؤهم على الإسلام اليوم؟ وما الذي، في إسلام اليوم، يحرّك أسوأ الغرائز المقيمة في قيعان الحضارة الغربيّة؟.

إنّه، أوّلاً وأساساً، وجود مسلمين يقحمون الإسلام في شؤون الدنيا، وصولاً إلى أصغر تلك الشؤون، فيسيئون إلى الإسلام إذ يضعونه في مواجهات دنيويّة، فيما يسيئون أيضاً إلى الحضارة الغربيّة بردّها إلى مراحل تجاوزتها، وبتعريض الهوامش المتطرّفة والرثّة فيها على حساب المتن العريض.

فهم، إذ يشتقّون السياسة من الدين، بما فيها سياسة العنف، و11 أيلول الشاهد الأبرز على ذلك، ينفّذون مهمّتين: واحدتهما تلخيص الإسلام إلى جهاد، ومن ثمّ تلخيص الجهاد إلى عمل عنفيّ محض، والثانية الإسهام في تديين العالم، لا سيّما ذاك الشطر الغربيّ الذي قطع شوطاً بعيداً في التعلمن وشوطاً معقولاً في بناء مجتمعات تعدّديّة ثقافيّاً ودينيّاً وإثنيّاً. وليس بلا دلالة أنّ جميع القوى النضاليّة في العالم الإسلاميّ اليوم قوى دينيّة على نحو أو آخر: يصحّ هذا في المقاومين الأفغان والعراقيّين واللبنانيّين والفلسطينيّين صحّته في laquo;القاعدةraquo; وأحمدي نجاد ونظامه الخمينيّ. وهؤلاء إنّما تتعاظم راديكاليّتهم الدينيّة فيما المراكز الدينيّة التقليديّة تفكّر في عدّ عكسيّ يحدّ من قطيعتها مع العالم وغربتها عنه.

فالقوى الراديكاليّة المذكورة لا تملك من المعرفة بالعالم ما يُعتدّ به ويُعوّل عليه، ومن علامات ذلك أنّها المصدر الأنشط اليوم لـraquo;ثقافةraquo; إنكار المحرقة، تماماً كما هي المصدر الأنشط وراء تبهيت المعاني التي ينطوي عليها الحادي عشر من أيلول، فضلاً عن أنّ أحد أطرافها هو مرتكبها.

هنا نقع على الفارق بين كاسترو، يوم كان أحد رموز التصدّي للولايات المتّحدة، وبين هذه القوى الدينيّة وقد انتقل المشعل إلى يدها. بيد أنّ هذا لا يلغي أنّ كاسترو ورفاقه، بعدميّة الأرض المحروقة التي خاضوا فيها معاركهم، وبالاستبداد الذي نجم عنهم وعن أفعالهم، إنّما عبّدوا الأرض لمن لا يزدهر إلاّ فوق أراض محروقة.