حازم صاغيّة


يغوص لبنان واللبنانيّون في مستنقع الكلام الذي يفتح على احتمالات شتّى أحلاها مُرّ. يكفي أنّ ضابطاً سابقاً، وفي مؤتمر صحافيّ نقلته وسائل الإعلام، هدّد رئيس الحكومة بالانتقام وبأخذ حقّه بيده، متعهّداً بترك ما قد يتبقّى من هذه المهمّة لابنه ولحفيده من بعده.

والمشكلة ليست في الكلام طبعاً، ولا حتّى في تلك القيم الزاحفة إلينا من بطون ماضٍ سحيق كنّا نتمنّى لو أنّه مضى. ذاك أنّ أقوالاً وقيماً كتلك لا تعدو كونها مرايا لواقع لم تعد توجد قوّة لبنانيّة، أو كتلة قوى، قادرة على صياغته وعلى الإمساك بناصية سلوكه وقيمه.

وهذا ما قد يفسّر شيوع أخلاق وطباع تتجلّى في تفاخر البعض بأنّ سوريّة تفهم عليهم، هم، وتستجيب لهم، هم، أكثر ممّا تفعل حيال البعض الآخر. وذلك السلوك إذا ما صحّت فيه مباهاة الصلعاء بشعر جارتها، يشي بمدى البُعد عن أخلاق المواطن وعن طباعه.

وأغلب الظنّ أنّنا نحصد اليوم نتائج الانهيار المديد والمتصاعد الذي تعرّضت له إمكانيّة قيام القوّة اللبنانيّة القادرة على الإمساك بالمجتمع، وتالياً بالدولة. والانهيار هذا إذا ما ساهمت عناصر داخليّة، سياسيّة وديموغرافيّة، في صنعه، فقد ساهمت أيضاً عناصر خارجيّة توسّلت موضوع الصراع العربيّ ndash; الإسرائيليّ لتضمّ إلى رصيدها ما انتزعته من قوّة المجتمع والدولة اللبنانيّين.

وقد كان النذير الأوّل حرب السنتين في 1975-1976 التي شرعت في كسر ما سمّي laquo;الهيمنة المارونيّةraquo;، هي التي ارتبط بها قيام البلد وتطوّره منذ 1920 حتّى ذاك الحين. وما لبثت هذه العمليّة أن بلغت أوجها في حرب الجبل، في الثمانينات، التي أطلقت هجرة المسيحيّين الضخمة، إلاّ أنّ الأهمّ أنّها ضربت المنطقة التي شكّلت مهداً لرعاية حداثة اللبنانيّين، وفيها تأسّست بعض بذور الحداثة في المشرق العربيّ.

وقد جاءت الفترة الممتدّة من اتّفاق الطائف حتّى اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 2005، تعلن استحالة تأسيس laquo;هيمنةraquo; بديلة، بل عدم امتلاك أيّ من عناصرها لدى القوى التي ورثت laquo;المارونيّة السياسيّةraquo;. بل إنّ المعادلة التي أشرفت الوصاية السوريّة عليها، وعلى اشتغالها، ومفادها أنّ الإعمار للحريري (السنّة) والمقاومة لـ laquo;حزب اللهraquo; (الشيعة)، كانت دليلاً فصيحاً على تلك الاستحالة المموّهة بتقسيم عمل انتصافيّ.

هكذا نبدو اليوم أمام قوى ثلاث، اثنتان منها (laquo;المستقبلraquo; ومَن حوله و laquo;حزب اللهraquo; ومن حوله)، تغلب الاعتبارات الخارجيّة غلبة بعيدة على قرارهما، علماً بأنّ تلك الاعتبارات تتفاوت كثيراً في مدى الخطر الذي تشكّله على حياة اللبنانيّين ومصائرهم. أمّا القوّة الثالثة، أي المسيحيّون، فهي، بطرفيها الـ14 آذار والعونيّ، تتحدّث بلسان نوستالجيّ يبدو أحياناً ساذجاً وأحياناً فجّاً وغالباً خارج السياق. لكنّ كثيراً ممّا يقوله سياسيّون مسيحيّون كسمير جعجع وسامي الجميّل، لا تحول سذاجته أو فجاجته أو خروجه عن السياق دون صحّته. وما هو صحيح في الزمن الخطأ مرشّح لأن يبدو ساذجاً أو فجّاً أو خارجاً عن السياق.

وهذا، في أوجهه جميعاً، لا يبعث إلاّ على الحزن، راسماً لأعيننا الوادي السحيق الذي نتّجه جميعاً صوبه.