عبد الوهاب بدرخان


كثرت المقارنات أخيراً بين العراق ولبنان، ذهاباً من أزمة الماء والكهرباء علماً أن بلداناً عربية أخرى تشاطرهما إياها، انتقالاً إلى واقع أن quot;مكوّناتquot; المجتمع والمناطق تعيش كعوالم متصلة quot;لوجستيّاًquot; ومنفصلة نفسيّاً ووجدانيّاً، وصولاً إلى تفاصيل الحياة السياسية المراوحة بين تطيّف وتمذهب، وبين محاصصة للمواقع والمناصب وتقاسم لكعكة الثروة الوطنية، مع فارق صارخ هنا في انعدام الموارد لبنانيّاً، في انتظار أن تتوفر لاحقاً عندما يصبح quot;نفط الجنوبquot; حقيقة ملموسة.

لعلّ أوجه الشبه المتمشهد أكثر فأكثر هو في صعوبة تشكيل الحكومات، إذ استحالتها كيمياء عصّية تستوجب العمل أو حتى اللاعمل عليها شهوراً طويلة قبل أن تستقيم المعادلة. وتُعزى الصعوبة إلى أن الحل والربط ليسا في الداخل وإنما في التدخلات، ولذا يستغرقان وقتاً غير محدد، خصوصاً إذا كانت الأطراف الخارجية متباعدة وغير متفقة لكنها متيقنة بأن توافقاً سيحصل في ما بينها، طال الزمن أم قصر. وعلى الطريق إلى هذا التوافق لابد من تمرير فترة من السجال سواء بالمناورات السياسية، أو بتراشق quot;الرسائلquot; التي تتخذ أحياناً شكل عبوات ناسفة. هذا ما شهده لبنان أيام حربه ولا يزال، وتشهده مدن العراق وأحياء بغداد حيث لا تزال المواجهة مفتوحة.

خرج لبنان من حرب أهلية- دولية، ويتطلع العراق إلى الخروج من حرب مماثلة، فإذا بالدولة هنا وهناك أقرب إلى هيكل عظمي سياسي هش. بالكاد تستطيع إدارة شؤونها اليومية، لكنها مخترقة بمراكز نفوذ عدة، يغلب عليها التنافر وصراع المصالح، ما يحول عمليّاً دون تأسيس quot;الشيء الوطنيquot; الذي يفترض أن يشحذ الوئام كهدف مشترك يستحق تضحيات وتنازلات وتسويات. فالأطراف الخارجية كيفما قلّبت حساباتها لا ترى لها مصلحة في أن تكون هناك دولة فاعلة وقوية، وكيفما بلورت توافقاتها لا تستطيع أن تتعايش إلا مع دولة تحت هيمنتها، مطواعة لخياراتها، أداة في صراعاتها. ينتج عن ذلك نمط الدولة اللادولة، شكل بلا مضمون مؤسسي، أو بمضامين كثيرة لا تآلف أو تلاحم بينها.

هناك حكومة اليوم في لبنان أمكن تأليفها بعد ما يقرب من ستة شهور على الانتخابات العام الماضي. ولدت شبه متعافية ومستعدة للعمل، وبعد بضعة أسابيع عاودتها عوارض المرض العضال مذكراً بتفكك أوصالها، ذاك أن أعضاءها لا يبدو أنها تعمل في جسم واحد. أما في العراق فلا حكومة بعد ستة شهور ونيف على الانتخابات، ولا تزال الأطراف المرشحة للمشاركة فيها لا محالة تتحرك في مدارات متنافرة. اللافت أن هذه الأطراف تناوبت خلال أسابيع على تبادل الاتهامات والإدانات والتشهيرات بالتدخلات الخارجية وبخضوع هذا الطرف أو ذاك لتعليمات وإيحاءات من الخارج، وكذلك بإقدام بعض الأطراف على استدراج التدخلات وتوسلها واستدعائها. وحين تكشف أن أحداً لم يمتنع عمليّاً عن الشرب من هذه الكأس توقف التهاتر حولها، فالكل يعرف الكل.

في لجة التأزم تتهالك لغة الخطاب السياسي، في بيروت كما في بغداد، حتى أنه يصعب التمييز بين أيهما أكثر إسفافاً. وكلما بولغ في السفه كلما أمعن في قتل السياسة لمصلحة التضليل، إذ أن اللغة الهابطة غالباً ما تعبر عن ترهيب ميليشياوي يقاسم الدولة سلطتها وسيادتها بل يتجاوزها ويحتقرها. ومن غبار هذا التضليل يفترض أن تنبثق دولة لجميع مواطنيها، لكنها تأتي دائماً على شاكلة القابضين على روحها وسالبي هيبتها وقرارها.

أخذت الولايات المتحدة في الاعتبار أن نوري المالكي أبلى بلاء حسناً عندما ضرب quot;الصدريينquot;، وحجّم جماعة quot;المجلس الأعلىquot;، فقررت أنه يستحق أن يبقى في الحكم، وأن إئتلافه مع علاوي وإئتلافهما مع الأكراد يمثل صيغة مثلى.

لم يفهم الفيتوquot; الذي فرضه quot;الائتلاف الوطنيquot; (الشيعي) على المالكي وما إذا كان مصدره طهران، كما لم يفهم المقصد من وجود الأضداد في quot;التحالف الوطنيquot;. وعندما اقتربت إيران من وضع quot;فيتوquot; على علاوي، كانت دمشق تحاول التوفيق بينه وبين الصدريين والمجلسيين. هنا حسم الأميركيون أمرهم مستبعدين علاوي عن رئاسة الوزراء، لكنهم اقترحوا تعويضاً له يتمثل بمجلس أمني تنتزع صلاحياته من رئيس الوزراء. عندئذ طوّرت دمشق تفاوضها مع المالكي لتقترب من التوافق الأميركي- الإيراني... وهكذا تمضي التدخلات قدماً، فيما تعزف أبواق التضليل أن القرار سيكون في النهاية داخليّاً.