نورالدين قلالة


عندما يكون التزوير على أعلى مستوى ليطال شخصية كشخصية رئيس الدولة فإن الأمر يعتبر خطيراً جداً، ويمكن أن يمتد ليمس شخصيات أخرى وقطاعات أخرى، فإذا كان الرئيس ليس بمنأى عن الفبركة والاستغفال فما بالك ببقية الشعب؟
ما حدث لصورة الرئيس مبارك في laquo;الأهرامraquo; المصرية، وإن كانت قد تحدثت عنه العديد من الجهات في وسائل الإعلام في العالم، إلا أن الجرح الذي تركه سيبقى في مخيلة الكثيرين، لأن صورة مبارك هي صورة مصر، وصورة مصر هي صورة مبارك، إذا اهتزت إحداهما تداعت لها الأخرى بالمرض والوهن، وهذا الذي حدث.
صورة مبارك.. كانت سقطة تربوية وأخلاقية، ظهرت كمن يغش في الامتحان ليجد اسمه آخر السنة على رأس قائمة الناجحين في الفصل، ويكون بذلك من المتفوقين والنجباء، وهي شهادة يتباهى بها أمام الجيران والأصدقاء والأشقاء، لكنها في النهاية شهادة مغشوشة ومزورة لا تعبر عن حقيقة مستوى هذا الطالب.
صورة مبارك.. سقطة إعلامية، وهي تعكس حجم الزيف الذي يعيشه المواطن المصري في الريف والمدينة، حجم المساحيق والديكورات الزائفة التي يغطي بها بعض الساسة والإعلاميين والرياضيين والفنانين وجوههم، وهي تعطي الانطباع الأول لدى الجميع بأن الصحافة تمتهن الكذب على القراء والضحك على ذقون المواطنين، فإذا عجزت laquo;حكومة الأهرامraquo; الكبرى، العريقة، عن تغطية صورة كانت ستبدو عادية وغير مسيئة لمصر ولا لرئيسها لو نُشرت بشكلها الأصلي، كيف يمكنها أن تفعل لعشرات الأخبار اليومية التي تمر عليها يومياً وهي مجبرة على تقديمها للقارئ في صورتها الأصلية دون رتوش ودون تزييف ودون مساحيق؟
ما حدث كان بحق فضيحة أخلاقية ومهنية كبيرة من شأنها أن تعيد النظر في قانون الإعلام في مصر -إن كان هناك قانون- وفي الدول العربية لأنها أساءت إليها كثيراً، فما قامت به laquo;الأهرامraquo; ليس خطأ مطبعياً أو نحوياً وليس حتى نشر خبر غير حقيقي عن قضية ما أو شخص ما.. كل هذا يمكن تجاوزه لأنها الحال اليومية لأي مؤسسة إعلامية، صحيفةً كانت أو إذاعة أو تلفزيوناً.. الخطير في الأمر أن مصداقية laquo;الأهرامraquo; والإعلام المصري والعربي عموماً أصبحت على المحك، ولست أدري الطريقة المثلى لتجاوز هذا التزييف الخطير للحقائق، هل بالعقاب أو بالتوعية أم ماذا؟؟ ولكن توعية من؟ الأهرام، هي بحجم الهرم.. وهي الأجدر بتوعية الآخرين.
صورة مبارك.. سقطة نفسية نابعة أساساً من تفكير رغبوي كبير يسيطر على العقلية المصرية بشكل كبير إلى حد أصبح من أسس تكوينها الأصلي، ويبرز هذا التفكير للآخر في مجالات عديدة كالفن والثقافة والأدب والرياضة والأمن والسياسة وغيرها.. وهو أمر يضع مصر كدولة في المقدمة دائماً.
لا أحد، في العالم وليس في الوطن العربي فقط، يمكنه أن يشكك في مكانة مصر ودورها.. ولكن عندما يصبح الترويج لهذه المكانة laquo;صناعة مصرية %100raquo;، يصبح التفكير في تأكيد المقولة أمراً مشوباً بالشكوك، لأن الإخوة في الإعلام وفي غيره لم يتركوا للآخرين حتى مجرد الفرصة لتثمين هذا الجهد أو ذاك، إذ لا يكفي أن تقول laquo;إنني الأولraquo; لتصبح كذلك.
صورة مبارك.. سقطة سياسية، أعطت الانطباع للجميع أن مصر التي تتظاهر بالقيادة ليست قائداً بل laquo;مقوداًraquo;، لا أحد يجهل في العالم العربي أن البوصلة الأميركية هي التي تحرك مصر في المنطقة نظراً لعدة أسباب -لا يتسع المجال لذكرها- والجميع يعرف أن مصر ليست وحدها في التحرك وفق البوصلة الأميركية، غيرها كثيرون، لكنهم على الأقل لا يدّعون القيادة أو لا يحبذونها أو غير قادرين عليها، فلماذا يتشدق النظام المصري بحبال واهية كشفتها مجرد صورة؟
لقد أوحى تغيير الصورة كم هي مصر محبطة لتراجعها وسيرها في الخلف على مستويات عدة سياسية واقتصادية، وكم هي قاسية الغربة التي تعيشها مصر في ظل تقدم أمم أخرى لتحل محلها كتركيا وإيران، لكن خبراء laquo;الفوتوشوبraquo; وصناع التفكير الرغبوي أرادوا غير ذلك، فبإمكان أي أحد يتقن مبادئ هذا النظام أن يرسم ما يريد، بإمكانه أن يستخرج لنفسه صوراً في كل بقاع العالم ومع أشهر الشخصيات البارزة في التاريخ الأحياء منهم وحتى الأموات.. هكذا أراد جهابذة laquo;الأهرامraquo; أن يقولوا للعالم إن مصر ليست في المؤخرة.. فوصلت الرسالة ولكن للأسف بالمقلوب.
صورة مبارك.. سقطة رياضية، لأن الذي يفبرك صورة يمكنه أن يفبرك laquo;ماتش كورةraquo;، ومن يجرؤ على انتحال صورة الرئيس، من السهل عليه أن ينتحل صفة مدرب أو حكم، ومن السهل عليه أن يكسب laquo;الدوريraquo; بشراء الذمم والمقابلات، ومن يدري قد يرغم لاعبيه الدوليين على تعاطي المنشطات لكسب بطولات عربية وإفريقية.. كل شيء سهل عندما تتوفر الإرادة laquo;الشريرةraquo; من أجل هدف يفترض أنه laquo;خيرraquo;، لكن الأمر على النفوس هو مذاق الانتصار لدى عامة الشعب عندما يكون مشوباً بمرارة الحيل غير المشروعة.
صورة مبارك.. سقطة فنية، إذ توحي للمواطن المصري أن ما يُقدم له من إعلام مقروء بعيد عن الحقيقة، يمكن أن يقدمه الإعلام المرئي بنفس الأكاذيب والحيل السينمائية ضمن مسار فيلم خالد يوسف laquo;خيانة مشروعةraquo;، ولأن مصر رائدة وقوية في مجال صناعة السينما فإن صدمة laquo;الصورة المتحركةraquo; التي يبثها جيش من القنوات الفضائية يمكن أن يكون وقعها أقوى وأشد.. ففي أفلام الفيديو وعن طريق laquo;مركّبraquo; محترف بالإمكان تزييف كلام أي مسؤول أو فنان أو لاعب، بالإمكان خلق فتنة داخلية أو مع شعوب أخرى بمجرد عرض صور فيديو مسيئة لأي جهة كانت.. المجال في السمعي البصري واسع ومذهل وخطير مقارنةً بالصحف والمجلات.
لكن الغريب أن ردة فعل laquo;الأهرامraquo; على قصة الصورة المزيفة بعد اكتشافها، كانت ضمن مشهد تبريري آخر، لا يمكن وضعه إلا ضمن قاعدة laquo;رُبّ عذر أقبح من ذنبraquo;، فقد سعت الصحيفة إلى شرح موقفها وسلوكها بالقول إن الصورة laquo;تعبيريةraquo; أرادت إظهار الرئيس مبارك وهو laquo;يقودraquo; الزعماء المشاركين في الجولة الأولى لمفاوضات السلام المباشرة، وتؤكد laquo;دورهraquo; في تحقيق السلام، لست أدري مدى laquo;تعبيريةraquo; الصورة وبالنسبة لمن؟! لكن عملية التزوير هذه تفسر قناعة داخلية أن مبارك لا هو قائد لهؤلاء الزعماء، لأن الصحيفة لجأت إلى laquo;صورةraquo; لادعاء القيادة، ولا دور له في تحقيق السلام، لأن السلام لم يتحقق ولن يتحقق بالأدوار الملفقة والصور المزورة، فظهرت الأهرام الكبرى كمن يغطي الشمس بالغربال.