فيصل القاسم

لا يسع المرء إلا أن يقف إجلالاً وإكباراً للبرلمان الكويتي الذي يُبدي، على عكس العديد من نظرائه العرب، حيوية وشجاعة عز نظيرهما في عالمنا العربي، فقد اعتاد معظم أعضاء مجالس الشعب العرب دائماً على رفع أيديهم دفعة واحدة تحت قبة البرلمان بالموافقة على المشاريع المطروحة عليهم، كما لو كانوا جوقة من عازفي آلة الكمان، كي لا نقول قطيعاً من قرود السيرك، صحيح أن البرلمان المصري كان يشهد معارك برلمانية حامية في السابق، لكن يبدو أنه كان أمراً غير مرغوب فيه بالنسبة للنظام الحاكم، لهذا تم في الانتخابات التشريعية الأخيرة استبعاد كل المعارضين دفعة واحدة كي يستمتع أعضاء البرلمان المصري الناجحون برفع أيديهم كبقية الدمى البرلمانية المنتشرة في بقية الدول العربية تأييداً للمقترحات التي يطرحها حزبهم الحاكم. تصوروا أن البرلمان المصري الجديد يخلو من المعارضة، وذلك على عكس نواميس كل البرلمانات في العالم.
صحيح أن أعضاء المعارضة الأردنية أصحاب أصوات عالية في البرلمان، لكن بحدود، فهم مثلاً كانوا في الدورات السابقة يتنمرون على رئيس الحكومة، لكنهم لا يستطيعون الاقتراب من المقامات، وذلك، كما سنرى، على عكس نظرائهم الكويتيين.
وحدث ولا حرج عن أعضاء البرلمان التونسي، فبدلاً من تأييد المتظاهرين التونسيين المطالبين بتحسين الأوضاع المعيشية والسياسية والحقوقية في ولاية سيدي بوزيد وغيرها من المدن التونسية، تمترس النواب التونسيون في جمعيتهم الوطنية المزعومة، وراحوا يتهمون بعض وسائل الإعلام العربية بتأجيج المظاهرات وتهديد السلم الوطني لمجرد أنها نقلت تحرك الشارع التونسي المبارك، بعبارة أخرى، فهم وقفوا ضد مطالب الشعب التونسي الذي من المفترض أنهم يمثلونه. وهذا يدل على أن معظم أعضاء البرلمانات العربية ما هم سوى خدم ومرتزقة عند الحكام العرب وأجهزتهم. وهم لا يمثلون إلا أنفسهم، ناهيك عن أن بعض البرلمانات العربية يقوم بتعيين المعارضين!
لكن عندما نقارن أداء أعضاء البرلمان الكويتي مع أداء البرلمانات العربية الصورية الهزلية الأخرى نستعيد بعضاً من الأمل بوجود برلمانيين يحترمون أنفسهم ومستعدين للمواجهة، فقد أقام بعض المعارضين الكويتيين الدنيا، ولم يقعدوها بعد تعرض بعض زملائهم للضرب على أيدي أجهزة الأمن الكويتية التي أساءت أكبر إساءة للكويت. فكلنا شاهد على شاشة التلفزيون كيف هجم رجال الشرطة على بعض أعضاء البرلمان كوحوش كاسرة، وأصابوا بعضهم في مقتل، علماً أنهم يمثلون الشعب الكويتي، أي أن الهجوم الضاري على النواب كان بمثابة إهانة كبرى للشعب الكويتي.
لكن الحادثة لم تمر مرور الكرام أبداً، فلو تعرض برلمانيون عرب آخرون للضرب من قبل أجهزة الأمن لربما سارعوا إلى تقبيل أحذية رجال الأمن كي يرضوا عنهم، ويبقوهم في وظائفهم quot;الخلــبيةquot; الوهمية، خاصة أن معظم البرلمانيين العرب هم عبارة عن أجراء وعبيد عند الأجهزة. أما في الكويت فقد قامت الدنيا، كيف لا وهناك أعضاء رجال فعلاً من طراز النائب الرجل مسلــم البراك الذي رفع صوته عالياً في وجه الحكومة ليجيش الكويت شعبياً وإعلامياً ضد تصرف الحكومة الشائن مع أعضاء البرلمان المعارضين. وقد شاهدنا النائب البراك على العديد من الشاشات يزأر بصوته الجهوري كأسد همام متحدياً الحكومة الكويتية بكل رجولة، وساخراً من قيامها بإغلاق مكتب إحدى الفضائيات العربية لأنها فضحت وحشية أجهزة الأمن الكويتية مع أعضاء البرلمان.
وقد تطور الأمر إلى طلب عقد جلسة برلمانية طارئة لاستجواب رئيس الوزراء الكويتي حول اعتداء الأجهزة الأمنية على أعضاء البرلمان المعارضين، وهذا ما حصل فعلاً، ناهيك عن أن بعض الكتل البرلمانية طالبت فوراً بعدم التعاون مع رئيس الحكومة. وهو إجراء يستلزم دستوريا التصويت عليه من قبل أعضاء البرلمان، وإذا ما حاز موافقة النصف من عدد أعضاء البرلمان المنتخبين، فإن رئيس البرلمان يرفع هذا الأمر إلى الأمير الذي يحق له دستوريا إقالة الحكومة أو حل مجلس الأمة.
وحتى لو لم تسقط الحكومة، إلا أن الموقف الذي اتخذه النواب المعارضون يجب أن يكون درساً لبقية شهود الزور العرب الذين يسمون أنفسهم زوراً وبهتاناً أعضاء برلمان، فعلى الأقل فإن فعلة أجهزة الأمن الكويتية الشنيعة بحق النواب المعارضين لم تـدفن في مهدها، بل جعلت البلاد تستنفر سياسياً وإعلامياً وشعبيا، إلى حد أن أجهزة الأمن انتشرت بكثافة غير مسبوقة على طول الطريق المؤدي إلى البرلمان وحوله يوم انعقاد الجلسة المطالبة باستجواب رئيس الحكومة، ولعل الانتشار الأمني الكثيف مؤشر على قوة التحرك البرلماني الكويتي وتصاعد خشية النظام الحاكم منه، خاصة في الآونة الأخيرة، حيث راح بعض الأعضاء يكسرون الكثير من المحرمات السياسية، مما يـنبئ بموجة ساخنة في قادم الأيام بين النظام والبرلمان.
ومما يزيد في أهمية التحرك البرلماني الكويتي أن رئيس الحكومة الكويتية ليس من طينة رؤساء الوزراء العرب الآخرين الذين يكونون عادة مجرد رجل كرسي أو نكرات أو ألاعيب في أيدي الرؤساء العرب، بل هو رجل مؤثر من الأسرة الحاكمة. مع ذلك، فإن النواب المعارضين لم يخشوا على أنفسهم من رد فعل النظام الحاكم، بل تحدوا رئيس الحكومة بكل بسالة ورجولة. أما في البرلمانات العربية الأخرى وهي تعرف نفسها جيداً، فإن حتى رئيس البرلمان لا يستطيع أن يتحكم بوظائفه الفيزيولوجية وهو يقف أمام رئيس الحكومة. لماذا؟ لأن السلطة التنفيذية في عموم العالم العربي ومن وراءها أجهزة الأمن، هي الحاكم الفعلي للبلاد، أما السلطة التشريعية فهي عبارة عن ديكور سخيف يتزين به الطغاة العرب للضحك على ذقون العالم وإيهامه بوجود ديمقراطية لديهم.
صحيح أن مجلس الأمة الكويتي ليس النموذج البرلماني الأمثل في العالم، وصحيح أيضاً أنه لا حول ولا قوة له في القضايا الحيوية والإستراتيجية، وصحيح أيضاً أنه لا يستطيع أن يساءل النظام الحاكم حول صفقات الأسلحة المليارية، وصحيح أن حاكم البلاد يستطيع أن يحله بجرة قلم، ناهيك عن أن الحاكم بارك تصرف أجهزة الأمن الكويتية مع نواب المعارضة، وصحيح أن البرلمان لم يتحرك حتى الآن في وجه quot;المكارثيةquot; المتصاعدة في الكويت التي تستهدف الإعلاميين الكويتيين الأحرار أمثال الصحفي الكويتي الشهير عبد القادر الجاسم الذي أودعوه السجن بتهمة تتنافى مع الديمقراطية الكويتية، إلا أن مجلس الأمة الكويتي، مع كل ذلك، يبقى نموذجاً عربياً مضيئاً مقارنة بالبرلمانات ومجالس الشعب والجمعيات الوطنية العربية الأخرى التي تمثل على الشعب بدل أن تمثله، فالرمد أفضل بكثير من العمى.
يكفي أن البرلمان الكويتي يستطيع أن يرفع صوته، ويؤرق الحكومة، ويجيش البلاد والعباد، ويتشاجر أعضاؤه بحيوية إيجابية رائعة، ويستغلون قبة البرلمان للبت في القضايا التي يقدر عليها، وتهم الشعب الكويتي، بينما لا يستطيع نظراؤهم في دول عربية أخرى أن يفتحوا أفواههم إلا عند طبيب الأسنان، لا عجب أن قال الشاعر أحمد مطر في أولئك النواب المزيفين الآخرين:quot; كم أقمتم في بيوت الشعب باسم الشعب... والشعب بقعر السجن راقد... دمه من فوقكم... من تحتكم... من حولكم... بين أياديكم... على المأساة شاهد... منذ أجيال وشعبي فوق سندان الحكومات... وأنتم فوق شعبي مطرقة... منذ أجيال وأنتم... تستريحون على أكتاف شعبي المرهقةquot;.
وسلامتكم!