حليمة مظفر

تذكرت تاريخ القهوة وما مرّت به من الهجوم قديما وما صدر ضدها من فتاوى تحرم شربها حين فهموا أنها من quot;المسكِراتquot; فرموا شاربها بتهمتي الفسق والمنكر؛ حين تأملتُ اليوم والأمس الهجوم ذاته على quot;الليبراليةquot; ممن لم يعرفوا منها سوى زعم يشيع أنها quot;حرية إباحيةquot; نتيجة ما أصاب مفهومها المطاطي من تشويه على أيدي مدعي المعرفة والفكر! إذ تعودنا على quot;قولبة عقولناquot; فبتنا أعداء لما هو حق!
من المعروف أن سيدنا محمدا عليه الصلاة والسلام جاء بمشروع حضاري تمثل في الإسلام/ الدين الإنساني العالمي الذي يهدف لتعمير الأرض، وهو يتكئ على بناء الفردquot;، فالمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاquot; ولن يكون ذلك إلا ببناء الفرد لأنه لبنة المجتمع؛ لهذا كانت مهمة الدين تحريره من عبودية الذات والآخر؛ للوصول إلى الإيمان تأملا وتفكرا يدفع للبناء؛ ولن تتحقق المهمة quot;العقليةquot; إلا بتحقق حرية صاحب العقل/ الفرد/ الإنسان؛ ليصل إلى قدرة التفكير ومن ثم قدرة الفعل؛ كي يصبح مسؤولا أمام ربه على أفعاله وحده دون تعليق أمرها على أسباب أخرى سلبته حق اختيارها خطأ كانت أم صوابا؛ تحقيقا لمبدأ الحساب quot;وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىquot;؛ فرحمة رب السماء تسبق غضبه؛ ولهذا رفع القلم في حال تعطُّل العقل؛ فلا على المجنون ولا الطفل ولا النائم حساب.
ولكي تتحقق مسؤولية الإنسان أمام ربه على أفعاله التي يحكمها عقله، عزز الدين قيم الحرية؛ فأعتق الرقاب في عصر العبيد، وجعله من أكثر الأعمال تقربا لله، فلن يمتلك الفرد صلاحية التصرف بإرادته ما دام جسده وأمره ملكين لغيره؛ ثم دفع به إلى التحرر من الجهل الذي جعله قبل الإسلام عبدا لأصنام من quot;تمرquot; وquot;حجارةquot; وquot;طقوس قبليةquot;؛ ثم عزز المساواة بتعزيز قوانين تحمي فردانيته وتحقق له الأمان بما يمنع التعدي على حقوقه وحياته؛ وهي ذاتها التي تُنهي حريته أيضا حين تتعدى حدودها للإضرار بالآخرين، فما هي قيم الحرية التي اعتمدها الإسلام لبناء الفرد كي يبني الحضارة ويعمر الأرض؟ إنها ثلاث؛ كرامة الإنسان quot;وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَquot; ، وحرية الاختيار حتى في المعتقدquot; َلا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّquot; وتحقيق المساواة دون تمييز طبقي أو عرقي أو جنسوي quot;يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْquot;؛ هكذا أعطى كل إنسان الأهلية ليتحمل مسؤولية تصرفاته أمام ربه؛ وسلب إحدى هذه القيم الثلاث مبرر كاف لتعليق تصرفاته على شماعة الآخر، وهو ما لا يتفق مع مبدأ الحساب المقرر quot;كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌquot;.
هذه القيم الثلاث للحرية، الكرامة والمساواة وحق الاختيار جاءنا بها الدين منذ أكثر من 1431 سنة؛ هي اليوم مبادئ quot;الليبراليةquot; في أبسط تصوير لمفهومها والذي توصلت إليه عقول مفكري وفلاسفة أوروبا منذ قرون بسيطة بعد معاناة طويلة من حروب وظلمات وجهل؛ فكانت لبنة بناء الفرد الذي يشد بعضه بعضا لديهم، لتبني الحضارة التي تنتج اليوم ما نستهلكه في سوقنا.
أخيرا؛ أليس هناك تقارب بين ما عانته القهوة بالأمس وما تعانيه الليبرالية اليوم؟!