وحيد عبدالمجيد

خمسون عاماً فقط تفصل العقد الثاني في القرن الجاري عن العقد السادس في القرن الماضي، لكنها كانت كافية لنقل العالم العربي مما وُصف بأنه عصر الوحدة إلى ما يبدو أنه زمن التقسيم والانفصال. اقترن صعود الحركة القومية العربية في خمسينيات القرن العشرين بانتعاش حلم الوحدة من المحيط إلى الخليج. وبدا هذا الحلم قريباً من الواقع عندما أُعلنت الوحدة المصرية السورية اندماجية شاملة في فبراير 1958. غير أنه لم يمض سوى أقل من أربع سنوات حتى تلقى الحالمون بالوحدة أول صدمة كبيرة بعد انفصال سوريا وانهيار quot;الجمهورية العربية المتحدةquot; في سبتمبر 1961. وفشلت محاولات إنقاذها عبر تحويلها ثلاثية تشمل العراق أيضاً عقب استيلاء حزب quot;البعثquot; على السلطة في فبراير 1963. كما تعثرت مشاريع عدة أخرى أهمها اتحاد الجمهوريات العربية الذي كان مفترضاً أن يشمل ليبيا والسودان إلى جانب مصر وسوريا.

وكان الإنجاز الحقيقي الوحيد الذي تحقق في عصر الوحدة هو اتحاد الإمارات العربية الذي صار نموذجاً لم يتيسر إيجاد مثله في عصر الوحدة. فالوحدة اليمنية التي تحققت، فيما كان هذا العصر يلفظ أنفاسه، وصارت مهددة اليوم في زمن الانفصال.


ولم يكن أحد يتخيل في عصر الوحدة، بل بعد إسدال الستار عليه بسنوات، أن يتواضع الحلم العربي من تحقيق وحدة شاملة quot;ما يغلبها غلاَّبquot; إلى المحافظة على الدول التي كان مرجواً أن تتحد وتُدمج في دولة واحدة! فقد صار صون هذه الدول من أن تُقَّسم أو تُفتَّت هو غاية المنى، بعد أن كانت قوى في التيار القومي العربي تعتبرها من نتائج عصر الاستعمار وتسميها quot;أقطاراًquot; للتقليل من شأنها ولتأكيد أن وجودها quot;القطريquot; لن يطول.
والحال أن تقسيم بعض هذه الدول لم يعد مجرد تهديد يلوح شبحه من بعيد، بل صار خطراً حالاً. فقد بات انفصال جنوب السودان واقعاً معاشاً على الأرض. ولم يبق إلا إعلانه رسمياً.

وليس السودان هو البلد الأول الذي يدخل زمن الانفصال العربي. فقد سبقه إليه الصومال الذي اقترن تقسيمه فعلياً بانهيار دولته وتفكك مجتمعه ضمن تدهور شامل أدى إلى انفصال إقليمه الشمالي وإعلانه دولة مستقلة لم تعترف بها دولة في العالم، فيما عجزت الحكومة المعترف بها عن بسط سيادتها حتى في العاصمة التي تسيطر quot;حركة الشبابquot; الأصولية المرتبطة بتنظيم quot;القاعدةquot; على بعض أحيائها إلى جانب القسم الأكبر من وسط وجنوب البلاد.

غير أن العرب ونظامهم الرسمي لم يستخلصوا الدرس الصومالي في بدايته، ربما لأنهم اعتبروه حالة هامشية رغم أن انهيار هذا البلد وتقسيمه تزامناً مع تفكك الاتحاد السوفييتي، ثم تفكك يوغوسلافيا أيضاً وتغيير خريطة البلقان. والمفارقة، هنا، أن العرب الذين تحدثوا كثيراً عن خطر تقسيم بعض بلادهم قبل حدوثه صمتوا عندما أخذ هذا التقسيم طريقه إليهم بدءاً بالصومال.

ولأن الأراضي المحتلة عام 1967، التي يسعى العرب إلى إقامة دولة مستقلة فيها، لم تصبح دولة، فقد تعاملوا مع الانفصال بين قطاع غزة والضفة الغربية عام 2007 باعتباره مجرد امتداد للخلاف السياسي بين حركتي quot;حماسquot;وquot;فتحquot;، وأغفلوا أن تقسيم الدولة المنشودة قبل إقامتها لا يخلو من دلالة على زمن الانفصال.

كان العرب مشدودين، وقت فصل غزة عن الضفة، إلى العراق الذي كان مرشحاً أولاً للتقسيم بعد تفكيك دولته ومجتمعه. فقد اقترن خوفهم من الهجمة الأميركية لإعادة ترتيب المنطقة بقلقهم من تقسيم العراق، الذي حظي بأولوية قصوى رغم أن عوامل انفصال جنوب السودان كانت تتراكم أمام أعينهم.

وبينما أصبح تقسيم السودان واقعاً يصعب تغييره، يظل شبح هذا التقسيم مخيماً في سماء العراق بانتظار ما يسفر عنه رحيل القوات الأميركية. لذلك لم يكن مفاجئاً تأكيد البارزاني مؤخراً تمسك الشعب الكردي بحقه في تقرير المصير. فهو لم يتحدث من فراغ بل انطلاقاً من واقع أن أكراد العراق يبنون كيانهم المنفصل بشكل تدريجي وفي هدوء.

كما ظهر شبح الانفصال أيضاً في سماء اليمن الذي عجز قادته عن المحافظة على وحدة شماله وجنوبه. فلم تقدم دولة الوحدة لما صار قسمها الجنوبي شيئاً يجعله مستعداً للدفاع عنها، مثلما أخفق قادة دول عربية عدة في المحافظة على وحدة نسيج مجتمعاتها وظنوا أن قوة السلطة تكفي لصيانة هذه الوحدة.

ولم يتعظ هؤلاء، وفي مقدمتهم صدام، بما حدث في يوغوسلافيا عندما رحل الزعيم تيتو الذي وحَّدها بالحديد والنار. ولم يدركوا أن التعايش الإجباري لا يدوم. والمشكلة الأكبر كانت أنهم لم يشعروا بالتفتت المجتمعي الذي يحدث في بلادهم تحت السطح الذي أحكموا هيمنتهم عليه.

لذلك دخل العرب زمن الانفصال الذي يزداد خطره الآن في لحظة صار احترام التنوع وتأكيد حق الاختلاف من أهم مكونات النظام العالمي الراهن. وأصبح بإمكان دعاة الانفصال الاستناد على التعاطف الدولي الواسع مع التنوع والاختلاف. ويظهر ذلك مثلاً في إعلان نائب رئيس الحراك الجنوبي في اليمن الشهر الماضي: quot;نحاول كسب تأييد أميركا لانفصالنا... كما فعل جنوبيو السودانquot;.

لقد دخل العالم عصر انفجار الهويات الذي ينذر بأن ما نشهده اليوم في العالم العربي ليس إلا مقدمات لعصر الانفصال بسبب ضعف قدرة كثير من بلاده على تنظيم التنوع والاختلاف (الديني والمذهبي والعرقي وغيرها) ليكونا عاملين لإغناء المجتمع، بدلاً من أن يصبحا سببين من أسباب تفككه.

فقد أصبح تأثير التنوع والاختلاف، إيجاباً أو سلباً، متوقفاً على محددين أساسيين: أولهما مدى عمق الانتماءات الأولية لدى الفئات المختلفة في المجتمع، أي انتماء كل منها إلى أصوله (الدينية أو المذهبية أو العرقية). أما المحدَّد الثاني فهو قدرة المجتمعات على أن تفرز آليات للاندماج.

والحال أن عوامل التفكك صارت أقوى من آليات الاندماج في أكثر بلادنا العربية، دون أن يقتصر ذلك على مجتمعات quot;الموزاييكquot;.

والمجتمعات العربية ليست وحدها في هذا الهم الذي أصبح عالمياً. لكن مشكلة بعض مجتمعاتنا أن مقومات الاندماج وآليات الإدماج فيها أضعف من غيرها في العالم باستثناء بعض المجتمعات الإفريقية وحالات أخرى معدودة في مناطق أخرى. فالعالم، الذي دخل عصر انفجار الهويات، يستعين على ذلك بفضائل الحرية والحوار والتفاعل الخَّلاق والحل الوسط للخلافات من أجل تنظيم منافع التنوع والاختلاف وتقليص أضرارها. وهذه فضائل مفقودة في واقعنا إلا قليلاً، رغم وجودها في مرجعياتنا الدينية والأخلاقية.