عبدالمنعم سعيد


تظهر الإسكندرية في كتب التاريخ بأشكال مختلفة غير تلك التي ظهرت بها خلال الأسبوع الماضي. ورغم أنها كانت عاصمة العالم في العصر البطلمي قبل الميلاد؛ فإنها ظلت حضاريا على الأقل منافسا لروما طوال ألف عام من المجد الروماني. وبالتأكيد فقد أفل نجمها كثيرا بعد اعتبار القاهرة عاصمة مصر الأولى مع العصر الفاطمي؛ إلا أنها بقيت دوما المدينة التي عرفت واحدة من معجزات الدنيا السبع، وكان سحرها كافيا لكي تكون رسميا، أو خلال الصيف على الأقل، العاصمة الثانية لمصر خلال العهد الملكي للأسرة العلوية. وبعد إهمال طويل خلال العصر الجمهوري جرى بعث laquo;عروس المتوسطraquo; مرة أخرى خلال العقدين الأخيرين عندما بعثت مكتبة الإسكندرية من مرقدها، ووجدت عددا من المنظمات الدولية مكانا مريحا لها، ووجد كثيرون ممن انتشروا على laquo;الساحل الشماليraquo; لمصر أن سحر البحر والرمال لا يغني عن جمال المدينة وزهوة الحضر.
ومعضلة الإنسان دائما أن الزمن يمكن تلخيصه في لحظة؛ وقد كانت اللحظة عند ذلك الخط الفاصل من الليل بين سنة وأخرى عندما جرى الانفجار الكبير، ومعه ذهبت أرواح إلى بارئها، وتمزقت أجساد بجروح بليغة. ووضع الحدث الإرهابي بصمته على كنيسة وجامع مقابل لم تكن حرمته كافية لكي تحمي دارا تقام فيها صلاة للواحد القهار.
وكانت اللحظة حاكمة كما كانت دوما حاكمة لمصر، ودول كثيرة في المنطقة، لكي تضع في كثافة شديدة أوضاعا سياسية واجتماعية ثقافية موضع التساؤل أحيانا والغضب أحيانا أخرى. ولكن المعادن أيضا تظهر بشدة خلال هذه المواقف، وربما لم ينتفض الجسد المصري إزاء حادث إرهابي كما حدث هذه المرة؛ ولم تتخلف قوة سياسية أو دينية واحدة ليس فقط عن إدانة الحادث، بل أيضا إعادة التذكير بما للإرهاب من خطر وأن الحرب ضده لا تزال مستعرة. ولكن أكثر المشاهد إثارة كان laquo;الوحدة الوطنيةraquo; التي تجلت في مظاهر كثيرة من أول مواقف الأزهر الشريف ودار الإفتاء، ثم كل الأحزاب والقوى السياسية، وحتى المؤسسات والقوى الشعبية والمواطن العادي الذي تحركت قواه لكي تحمي الكنائس ليلة عيد الميلاد.
القصة هكذا جعلت حادث الإسكندرية هزيمة ساحقة للإرهاب والإرهابيين؛ فما جرى هو أننا كنا إزاء عملية عسكرية إرهابية حدث أنها هذه المرة اختارت مدينة لها سحرها الخاص في التاريخ الإنساني بما يكفي للذيوع العالمي، وقصدت هدفا يراد به أن يكون له من نتائج الفرقة ما لا يقل بشاعة عن الحادث نفسه. والحقيقة أنه لم يكن هناك قصور في المعلومات عن النوايا، فمنذ فترة قصيرة كان تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين قد جعل أهدافه مفضوحة عندما دعا إلى استهداف عدد من الكنائس في مصر. وطوال السنوات الماضية جعلت laquo;القاعدةraquo;، مع تنظيمات أصولية وراديكالية الأقليات المسيحية هدفا لإحراج الدولة من ناحية، ودفعا لهم للهجرة من أجل الحصول على دول إسلامية نقية وصافية. فما حدث في الإسكندرية موجه ليس ضد أقباط مصر فقط وإنما يشمل المسيحيين العرب بصفة عامة، بهدف تفريغ المنطقة العربية من التعددية العرقية والدينية التي تميزها. والسوابق موجودة في الهجوم الذي قامت به جماعة مسلحة على أربعة عشر منزلا للمسيحيين في أحياء العامرية والغدير والدورة بالعاصمة العراقية بغداد منذ أيام قليلة. وقد خلفت هذه العملية الإرهابية قتيلين وسبعة من الجرحى. وفي 1 يناير (كانون الثاني) 2011، أصدر أحد الفروع العنقودية لتنظيم القاعدة وهو تنظيم laquo;قاعدة الجهاد من أرض الرباطraquo; في قطاع غزة بيانا ينتقد فيه حكما بالإعدام أصدرته محكمة في القطاع بحق مواطن غزي مسلم قتل بيده صديقه المسيحي. واستنكر التنظيم الحكم على اعتبار أن الجريمة المنسوبة للمحكوم عليه بالإعدام هي laquo;قتل صليبيraquo;، مع العلم أن الشاب المسلم قتل صديقه بدافع السرقة، بما يعني أن تنظيم القاعدة يعلي من شأن حياة المسلم القاتل لمجرد أن المجني عليه مسيحي.
المدهش حقا في الأمر كان في تأصيل أسبابه وكأننا، في العالم كله، وفي المنطقة العربية الإسلامية خاصة، لم نعرف الأمر ولم نختبره طوال العقود الأربعة الماضية التي اغتيلت فيها شخصيات سياسية عظمى، ودمرت فيها مواقع عرفت التعايش والتسامح. فكما هي العادة مع كل حادث إرهابي تهب عاصفة - تأتي عادة من التيارات الدينية المختلفة المعتدلة والراديكالية - أن العملية الإرهابية وراءها الموساد الإسرائيلي، والمخابرات المركزية الأميركية، أو مزيج بينهما مع قوى أخرى لا تحب لنا الخير. والنظرية هنا معروفة، وهو أنه ما دام العدو هو الذي سوف يستفيد فلا بد أنه الجاني؛ وهي نظرية يجري ترويجها فورا لحجب الأنظار عن الجناة الحقيقيين الذين يستندون إلى فقه إسلامي فاسد تعود جذوره إلى طائفة الحشاشين في العصور الوسطى، والخوارج في العصور الإسلامية الأولى. فأن يستفيد الأعداء والخصوم من واقعة بعينها، لا يعني بالضرورة تجاهل آخرين منا يروننا أعداء في laquo;القريبraquo; يستحق الإرهاب أكثر من العدو laquo;البعيدraquo; الذي يطاردها على مستوى العالم كله.
والمسألة ببساطة أن تنظيم القاعدة لم يعد يعمل كجيش منظم يقوم بعمليات التدريب والتجهيز كما جرى في laquo;غزوةraquo; نيويورك، وإنما يعتمد على عناصر محلية بلغ بها التطرف والتعصب ما يكفي لكي يقوم بغزوة الإسكندرية أو في غيرها من الحواضر. وهنا فإن المسألة ليست أقل تكلفة فقط من الناحية العملياتية واللوجستية، ولكنها أيضا تلقى عونا طائلا من عناصر محلية جعلت من التطرف والتعصب ورفض الآخر غذاء يوميا لشباب خذلت عقوله اعتدال المجتمع وقدرة الدولة. هنا فإن تنظيم القاعدة حدد الهدف - ضرب الكنائس وقتل المسيحيين - وأوضح الوسائل عندما شرح بتفصيل شديد كيفية صنع القنابل laquo;البدائيةraquo; ولكنها قاتلة وكافية للفتنة التي هي أشد من القتل. بعد ذلك فإن laquo;الفيروسraquo; سوف يأخذ طريقه إلى حيث يصيب البدن كله بالمرض حتى ينفجر ليس فقط في كنيسة القديسين، ولكن في مدينة رائعة، ووطن وشعب.
المعركة مع الإرهاب إذن متوطنة في القلوب والعقول، وقد جرت محاولات ناجحة من قبل في القاهرة والرياض لكي تراجع الجماعات الإسلامية والجهادية نفسها وفقهها. ولكن هذا الجهد على نتائجه الممتازة لم يستمر لكي يواجه ما تنشره هذه الجماعات من فكر يقدم المدد لمن لا يزالون على طريق الإرهاب؛ كما أنه لم يصل إلى هؤلاء الشباب الجدد الذين يجري تجنيدهم وعزلهم عن المجتمع والدولة، وبعدها يصبحون لقمة سائغة في عمليات إرهابية مروعة ضد المسلمين قبل المسيحيين، وضد الجوامع قبل الكنائس، بعد أن يختلط الانتحار بالشهادة، والإرهاب بالمقاومة