تونس في جماعية غضب لا حزبيات مصالح

تركي عبدالله السديري

الرياض

يكفي أن تطل عبر معلوماتك.. عبر ذاكرتك.. إلى مقارنة بين أوضاع العالم العربي الغني بقدرات خاصة تختلف نوعياتها من مجتمع لآخر لكن تجد أنه مربوط بمؤثرات تخلّف وتراجع تنمّي فيه مسبّبات الاختلاف ثم الاقتتال، وبين مجتمعات آسيوية وأفريقية وأمريكية جنوبية متدنية الإمكانيات ومتعددة الديانات والعرقيات؛ ومع هذا فهي أكثر استقراراً من العالم العربي، وفي نفس الوقت ذات رصيد جيد ومنطلق نحو التطور..

هل تستطيع أن تقول عن المجتمعات العربية إنها أسيرة تخلّف مستوطن بسبب قصورها العقلي وعجزها المالي بأن تخلق حضوراً اجتماعياً أفضل؟..

هذا ما يوحي به التكرار.. لكن ترفضه حقائق العلاقة بين سلطة الحكم وفئات المجتمع منذ مئات الأعوام، وبخصوصية أكثر منذ بداية القرن العشرين، حيث تنشأ حكومات الانقلاب وهي تعد بنموذج حكم غربي.. السلطة فيه للبرلمان ومدة الرئاسة محددة بزمن دستوري معين.. طرحت تونس في الأذهان كنموذج استقرار وتقدّم، لكن ذلك في البدايات، هنا سوف تتساءل كيف يمتد الحكم إلى ثلاثة وعشرين عاماً.. أين هو دور الآخرين في التعدد الحزبي، وتعدد وجهات النظر عند الآخرين..

ومع قسوة ما حدث فإننا أمام تميّز تونسي يختلف عن مظاهر الاعتراض الدموية في المجتمعات الأخرى، وهو أن الاعتراض التونسي - على الأقل كما هو في بداياته - لم يكن فتح مساحة الغضب والاعتراض لتكون مجال تنافسات دموية بين عدة تجمعات متخلّفة المفاهيم والغايات لأنها تخدم مَنْ يوجّهها مثلما حدث في العراق ويحدث أيضاً في السودان ولبنان، ومستتر يهدد بالانفجار في دول أخرى.. ما حدث في تونس هو رغبة شبه جماعية في توحّد الرفض لاستمرار الرئاسة، وتوحد المطالبة بمشروعية المنافسة الدستورية وفتح المجالات أمام مختلف وجهات النظر.. صحيح هناك قلة محدودة جداً حاولت أن تسلب؛ لكن الأكثرية أرادت أن تصلح.. وهنا اختلاف عن كل ما حدث في مجتمعات توزّع المصالح والغايات في مجتمعات أخرى..

فإذا احتسب للمجتمع التونسي أنه صاحب توجّه مبكر نحو حداثة البناء السياسي والاجتماعي لأمته فلا نأمل أن تكون هناك مؤثرات ضغط عربية لتنفيذ ذلك، ولكن يؤمل - وهذا أمر مؤسف - أن تكون هناك مؤثرات دولية تحاول فتح المجال نحو استمرارية التميّز التونسي..

في عصر الحاكم بأمر الله قرأنا أكثر من سيرة مضحكة لأكثر من حاكم احتوى الناس كمجرد محتويات في جيبه أو حقيبته.. وفي عصرنا الحاضر هناك في عدة مجتمعات عربية ما هو أسوأ؛ لكنه يغطّى بمظاهر كلام لا أفعال، حيث تتكاثر البطالة وتنوّع الاضطهاد وتنمية صراعات الطوائف والعرقيات..

إنه الجوع أيها السادة !

محمد عبد اللطيف آل الشيخ

الجزيرة

سقوط حكم ابن علي في تونس بهذه السهولة، وبعد هذه الانتفاضة الشعبية الواسعة، التي شارك فيها كل فئات المجتمع التونسي تقريباً، وأيضاً بهذه السرعة، يؤكد أن استقرار الأنظمة الحاكمة إذا لم يدعمها حلولٌ للتحديات الاقتصادية، ويلتفت صنّاع القرار فيها إلى المشاكل المعيشية المتفاقمة التي يواجهها الإنسان، وعلى رأسها البطالة، وندرة فرص العمل، ومكافحة الفساد المالي والإداري، فلن يحتاج هذا الاستقرار الهش لأكثر من (شرارة)، لتعلن انتفاضة الجوع، وغضب الفقراء، (حضورها)، غير عابئة بكل روادع الأمن، والقوة، والبطش وهيبة النظام؛ وهذا ما حصل في تونس؛ وهو ما يؤكد أن (شرعية) بقاء الدول واستقرارها واستمرارها هي (شرعية اقتصادية) في الدرجة الأولى؛ فعندما يجوع الإنسان، وتنسد في وجهه كل أبواب الرزق، وتزداد الفجوة بين من يملك ومن لا يملك، ويفقد أغلى وأهم ما يملكه الإنسان في حياته وهو (الأمل)؛ يتحول الوضع المستقر بين ليلة وضحاها إلى كومة من قش اشتعلت فيها جذوة من نار، ليأتي الحريق على كل شيء؛ ويتحول الإنسان الوديع المؤمن المسالم إلى وحش يُحطِّم كل شيء يعترض طريقه، ولن تخمد ثورته وغضبه حتى يتشفّى ممن يعتقد أنهم السبب في كل مآسيه ومعاناته.

ما حصلَ في تونس مرشحٌ لأن يحصل في بعض الدول التي تتفاقم فيها أرقام البطالة، وتضيق فيها فرص العمل، ويُعشِّش فيها البؤس، ويتلاشى (أمل) الشباب ذكوراً وإناثاً في أن يجدوا عملاً يقيهم ذل الجوع والحاجة والعوز؛ وفي المقابل لا يجدوا من صنَّاع القرار في بلدانهم من يلتفت إلى معاناتهم. وأكاد أجزم أن العدوى ستنتشر في كثير من دول المنطقة التي تتفشّى فيها البطالة ويزدهر فيها الجوع والفقر، انتشار النار في الهشيم.

وكثير من الأنظمة التي تمنع الحوار، وتكمِّم الأفواه، وتصادر حُرية الصحافة، وتختلق الأعذار لمنع (النقد) تحت أية ذريعة، ويعيث فيها الفساد بكل أنواعه، وأهمها الفساد المالي والإداري بمعناه الشامل، عادة ما تتفاجأ بردود الأفعال، فتأخذها الأحداث على حين غرة؛ وفي الوقت ذاته يأخذ صانع القرار فيها الغرور والتعالي، فيتمادى في العناد، ويفرط في استخدام القوة، ويبالغ في البطش، ويصرّ على أنَّ الضرب بيدٍ من حديد سيردع جموع الجوعى والمتذمرين ويجعلهم يرعوون.. وبدلاً من محاصرة المشكلة وهي في بؤرتها الصغيرة التي بدأت منها، تجده كمن يصب الزيت على النار ليزيد من اشتعالها؛ وعندما يثوب إلى العقل والموضوعية، ويتخلّى عن أسلوب اليد الحديدية، يجد أن الغاضبين وصلوا إلى نقطة اللا عودة، وتصبح تنازلاته إمعاناً في ضعفه، فيُدخل نظامه الحاكم، ويدخل معه الدولة إلى المجهول؛ وهو ما وصلت إليه الأحداث في تونس بعد أن فرَّ رئيسها، وترك وراءه تركة ثقيلة.. حاول ابن علي أن يتدارك الأمور، وأن يصلح الوضع عندما تأكد أن خيار القوة والبطش لا قيمة له؛ فوعد بخلق 300 ألف فرصة عمل لاحتواء نسب البطالة المرتفعة لدى حاملي الشهادات، وأمر بخفض أسعار المواد التموينية، وأطلق حرية النقد الصحفي، وألغى تكميم الأفواه، ورفعَ حجبَ بعض مواقع الإنترنت التي تنتقد الأوضاع في تونس، ونحّى المسؤولين عن القمع والبطش في نظامه، و وعد بمحاكمتهم، وقال إنهم كانوا يحجبون الحقيقة عنه، ومع ذلك لم تنفع هذه القرارات (الإصلاحية)، لامتصاص غضب الغاضبين وتطويق الثورة المشتعلة؛ فالقرار الإصلاحي إذا لم يُتخذ في (الوقت المناسب) لا يُصبح عديم الفائدة فحسب، وإنما يُمعن في إضعاف النظام؛ وهذا ما لم يُدركه ابن علي، وكذلك شاه إيران - أيضاً - إلا مُتأخرَين فسقطا.

فالذي لا يهتم بأرزاق الناس، ولا بتوفير العمل لهم، ولا يعرف في التعامل معهم إلا لغة الحديد والنار، فهو في هذا العصر يبيع (شرعية) بقائه.