وليد نويهض

انهيار ديكتاتور تونس في أقل من شهر على انتفاضة عفوية اجتاحت المناطق النائية والقرى والمدن وصولاً إلى العاصمة يكشف عن تخثر أنظمة الاستبداد ومدى ضعفها وعدم قدرتها في الدفاع عن مصالحها. فالضعف المقنع بقبضة حديد يدل على الخواء السياسي الذي تعاني منه سلطة قررت الانفصال عن الناس بذريعة مكافحة الإرهاب وملاحقة المعارضة ومطاردة laquo;الخطر الإسلاميraquo;.

سياسة تجويف المؤسسات من عصب الحياة وتفريغ قنوات الدولة من عناصر القوة التي توحد الناس في اتفاق إطاري مع السلطة الحاكمة أدت إلى عزل الديكتاتور عن شعبه وتقوقعه في قلاع رسمية تشرف على إدارتها نخبة مختارة ترفع التقارير الكاذبة عن حال المجتمع.

انغلاق النخبة على نفسها وابتعادها عن الأهل (الجماعة) شكل طوال عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي (23 عاماً) سياسة يومية اتسمت بالظلم واحتقار التقاليد والسخرية من العادات ومراقبة الناس ومطاردة المخالفين وملاحقة المصلين واعتقال الملتزمين بالإسلام.

أطلق الديكتاتور على سياسة التطرف العلماني سلسلة أوصاف أيديولوجية وحدد لها مهمات شبه مستحيلة اعتمدت تكتيكات بوليسية تنتهج خطة طرد الإسلام من جامع الزيتونة. وأدى التشدد العلماني إلى ابتكار أساليب قمعية تعمدت إرهاب كل مخالف للتوجه السلطوي بذريعة laquo;تجفيف الينابيعraquo;.

سياسة تجفيف الينابيع تعتبر أسوأ نهج ابتدعه الديكتاتور لحماية سلطته من الخصوم. الفكرة من أساسها كارثية لأنها تعتمد على رؤية وهمية تقوم على منهجية اقتلاع الناس من التاريخ وعزل قنوات الحياة وقطع السبيل بين الماضي والحاضر. ومثل هذه السياسة الانقلابية (الفوقية) لا يمكن لها أن تنتج دولة عادلة لكونها تتبع منهج التخلص من الآخر مهما كلف الأمر، وإعادة تأسيس جماعة أهلية تكون على صورة الحاكم ونموذجه الخاص.

تحت عنوان تجفيف الينابيع بررت السلطة سياسة تقطيع قنوات الاتصال بذريعة مكافحة الإرهاب ومطاردة الإسلاميين بوصفهم الخطر الأول والأخير على الدولة. لذلك صدرت قرارات وصيغت قوانين تعطي صلاحيات للشرطة بمراقبة المساجد واقتحام المنازل عند الفجر واعتقال المصلين وجرجرتهم من بيوتهم إلى السجون.

هذه السياسة التي بدأت بتجفيف ينابيع الإسلام أدت مع السنوات إلى تجفيف ينابيع الحياة عن الدولة وعزل السلطة عن الناس وتحصن الديكتاتور في قلاع نخبة مختارة لا وظيفة لها سوى رفع التقارير الكاذبة عن الاستقرار والازدهار والرخاء والاطمئنان والسعادة. وحين تقوم السياسة على مبدأ القطع مع التاريخ ونهج عزل الناس عن شرايين التواصل مع الماضي تصبح السلطة خاملة وضعيفة وغير قادرة على التعامل مع المجتمع واستيعاب متغيراته واحتواء انفعالاته. فالتجفيف في النهاية إذا اتسع نطاقه وطال أمده يرتد إلى الداخل ويقوض السلطة في لحظة زمنية عابرة.

لماذا لم يستطع الديكتاتور الدفاع عن نفسه؟ ولماذا كانت أدوات السلطة ضعيفة في التعامل مع الأهل؟ ولماذا استخدمت الأجهزة القوة وأفرطت في اللجوء إليها ولم تفلح في منع تمدد الموجات البشرية وانتقالها الغاضب من ناحية إلى أخرى؟

الجواب عن كل هذه الأسئلة يمكن حصره في عنوان laquo;تجفيف الينابيعraquo; الذي شكل طوال عقدين مشروع السلطة وعمودها الفقري في بناء laquo;دولةraquo; مقطوعة الجذور وبعيدة عن الناس ومعزولة عن الجمهور ومفصولة عن شرايين الحياة. وحين جاء الموعد لم يكن بإمكان الأجهزة أن تفعل أكثر مما فعلته في إطلاق الرصاص على العزل والأبرياء وأهل بلاد القيروان وجامع الزيتونة وميدان قرطاج.

شعار تجفيف الينابيع انقلب على صاحبه في لحظة الشدة لأن الديكتاتور حين احتاج إلى مساعدة لم يجد من يدافع عنه حتى تلك النخبة الخاصة التي اعتمد عليها لتسويق سياسته والترويج لها في الأجهزة والإعلام. فالتجفيف حين يتمدد ويتطور لا يتوقف عند خطوط معينة بل يتسلل إلى قنوات الدولة ومؤسسات السلطة فتأخذ بالضعف وتبدأ بالانحطاط وتفقد دورها ووظيفتها وتصبح غير قادرة على القيام بمهماتها والدفاع عن مصالحها وحماية القلعة.

الاستبداد في النهاية مهما بلغ من الجبروت والطغيان لا يمكن له أن يستمر إلى الأبد. سياسة الاضطهاد والعقاب والطرد والمطاردة تستطيع تأمين شبكة حماية للسلطة من الهيئات والأحزاب والمنظمات والنقابات في المرحلة الأولى ولكنها تبدأ بالتراجع حين تختفي شرايين الحياة تحت الأرض بحثاً عن ملاذ آمن. والملاذ الآمن يشكل شبكة حماية غير مرئية تضبط إيقاع المجتمع وتنظمه عفوياً من دون حاجة إلى مؤسسات تشرف على توجيه الناس.

ما حصل في تونس كان مفاجأة كبرى للسلطة والمعارضة في آن. فالسلطة اندهشت من حالات الاحتقان والغضب والاحتجاج الأهلي العفوي. والمعارضة الهاربة إلى الخارج أو الداخل لم تتوقع أن يكون الرد الشعبي بهذا القدر من الاتساع والامتداد. فالقوى التي انفجرت لم تكن مرئية أو محسوبة لأنها خرجت من تحت الأرض دفعة واحدة مسلحة عفوياً بتلك الشبكة الأهلية التي حافظت على وحدتها وتماسكها بفضل ذاك الملاذ الآمن الذي شكل حصناً للناس بعد أن بلغت سياسة تجفيف الينابيع حدها الأقصى في تطرفها العلماني.

هناك أسباب كثيرة ساهمت في سقوط الديكتاتور منها المباشرة وغير المباشرة ومنها القريب ومنها البعيد، إلا أن الأساس الذي أدى إلى تقويض هيبة السلطة تمثل في مقولة laquo;تجفيف الينابيعraquo;. فهذه المقولة لعبت دورها في تجفيف كل ينابيع الحياة في الدولة وتفريغ السلطة من أدوات القوة وتجويف المؤسسات من عناصر الحيوية القادرة على الدفاع وحماية حصن الديكتاتور.

انتفاضة تونس لا يمكن اختزالها بالجوع والعطش والبطالة والعطالة وردة فعل على إهانة وإنما هي تتضمن إلى مجموع تلك العوامل الكثير من العناصر الغائبة عن المشهد وتتمثل في انعدام الحرية وانغلاق الدولة على المجتمع وابتعاد النخبة المختارة عن الأهل وانعزال الجماعة عن ماضيها وقطع شرايين الحياة.

سقوط الديكتاتور لا يعني سقوط الديكتاتورية. فالشخص (الرمز) تتجسد في هيكله هيئة سلطة منهارة وخاوية تعاني من الضعف والتخثر مقابل مجتمع يتماوج بالحياة والحيوية طلباً للرزق والحرية. وهذه المعادلة لا تعني التعادل ولا تعطي شرعية للسلطة حتى تجدد المناورة وتتهرب من المسئولية.

ما حصل في تونس يعتبر من الحوادث النادرة في العقود الثلاثة الأخيرة من الزمن العربي. فالانتفاضة كانت عفوية جاءت خارج القنوات المرسومة وتدافعت أمواجها من دون أحزاب وتوجيهات مركزية وانصبّ غضبها على الديكتاتور بوصفه حامي سياسة تجفيف الينابيع.

الينابيع فعلاً جفت. لا أحزاب. لا منظمات. لا نقابات مستقلة. لا اتحادات تستوعب المطالب. لا عبادة من دون رقابة. ولا حرية أو حقوق إنسان. ولا معارضة. ولا صوت آخر غير صوت السلطة.

سياسة التجفيف نجحت في تجويف كل القوى من إسلامية ويسارية وديمقراطية وليبرالية وساهمت في توحيد السلطة بقبضة حديد علمانية متطرفة... ولكنها لم تمنع توليد طاقة حيوية تأسست في تلك الملاذات الآمنة التي حفرت في عمق الأرض لتنفجر في جيل لا هوية أيديولوجية له ويتمتع بشبكة عفوية من العلاقات ويمتلك معرفة بتلك التفصيلات التي ترشد إلى عنوان صاحب السلطة ومكانه.

رحل الديكتاتور خوفاً من العاصفة تاركاً تلك الينابيع الجافة، ولكن الحياة التي اندفعت في شرايين المجتمع تشكل ثروة لا تقدر بثمن وهي الكفيلة بإعادة الروح إلى دولة فقدت وظيفتها وتكبرت على الناس. وهذا الأمل معقود على الأهل لا على نخبة مختارة تطمح إلى وراثة بقايا سلطة ديكتاتورية