الشيء الذي هو كل شيء

تركي عبدالله السديري
الرياض
في أكثر من مقال ذكرت أن عالمنا العربي هو ميدان استيطان لمفارقات غريبة.. مفارقات تختلف في نوعية النظر لحقوق الناس.. مشروعية الحكم.. الالتزام بالنظام.. مستويات المعيشة.. تختلف عن أي شعوب أخرى في العالم الثالث..
التفاصيل مرت في أكثر من مناسبة.. والشواهد قائمة في أكثر من مجتمع.. ومراقبة انطلاق الشعوب بمسار منظم ومقنع نحو الأفضل، وفي الوقت نفسه انطلاق معظم الشعوب العربية نحو الأسوأ أمر كامل الوضوح والشواهد..
نأتي إلى مسألة اغتيال الرئيس الحريري، وذلك الاغتيال ارتبط بحالتي خصوصية لا يجب أن تهمل.. أن المقتول رئيس دولة وأيضاً رجل مجتمع بارز، ثم إن عملية الاغتيال لم تكن مجرد حالة إطلاق رصاص من قاتل مجهول، بل وفي وضوح صارخ كان الاغتيال مبرمج التدبير بدقة عالية وبوسيلة علمية دبرت كل حصانات الحماية، وبالذات في نوعية سيارة المقتول، ومع ذلك فقد تم تشتيت الجريمة لتكون مسرح اختلاف وجهات نظر، ثم تبادل اتهامات.. معلنة ومبطنة.. المطلوب معرفة من هو القاتل، وأكثر من ذلك أهمية صيانة حياة من يرأسون الدولة في بلد تميز بقتل المشاهير من أمثال: معوض وكرامي وجنبلاط..
في القاهرة رغم أن المقتولة هي لبنانية مطربة وأن الجريمة تمت في دبي وبطريقة تقليدية ومع ذلك فقد امتد الاتهام إلى رجل أعمال كبير جداً. ولم تستطع كل وسائل التعويض بالدية أو مكانة المتهم أو الفروق الكبيرة بين المقتولة وبين المتهمين أن تصدر قراراً بالتبرئة، هو القريب من كل واجهات الدولة، بينما هي قريبة فقط من مواقع السهر الليلي..
نأتي إلى ما حدث في تونس وهو ثورة شعبية جماعية وعارمة رفضت تقليدية الحكم وامتداده لأكثر من عشرين عاماً، وعدم القبول بأي مهدئات ووعود حتى أعطى فرقاء الحزبية والمسؤولية للمعترضين ما أرادوه، طبعاً مع كبح إجرامية من استغلوا المناسبة..
نستغرب ونحن نستمع إلى الرئيس معمر القذافي وهو يعلق على الحدث بما قاله من استغراب لحدوث الاضطرابات وعمليات الموت الشوارعي، ويؤكد أنه كان يمكن أن تدرس الاعتراضات ثم يتم تنفيذ ما هو مطلوب.. لا أدري لمن كان الرئيس القذافي يوجه كلامه، هل إلى الشعب الليبي الذي استمر فيه حكم الرجل الواحد لأكثر من ثلاثين عاماً؟ أم للشعب الجار الذي قدم نموذج رفض حازم لكل رئاسة تتجاوز القانون وتكون هي كل شيء.. كل شيء.. الناس مصفقون فقط..؟
عادل الطريفي
بن علي.. الباي الأخير؟!
الشرق الأوسط
في أواخر الستينات، قال بورقيبة لمجموعة من وزرائه ورجاله المقربين: laquo;في يوم ما سأنحرف عن الطريق، وسأهذي بأي شيء.. ولكن لا أحد منكم سيمنعني عن ذلك، أو يوقفني عن الانحرافraquo;. لقد كان بورقيبة محقا، فلقد استطاع خلال أربعة عقود أن يكون laquo;الزعيم الأبديraquo;، وlaquo;المجاهد الأكبرraquo;، وأن يتلاعب برجاله الذين يصنعهم، بحيث ما إن يرشح أحدهم لخلافته ويلمح له بقرب الرحيل، حتى يطلق الخصوم عليه لينتهي مقتولا، أو مسجونا، أو منفيا. ولكن الزعيم الهرم خسر اللعبة في 7نوفمبر 1987، حينما طوق جنود الحرس الوطني القصر في الانقلاب الذي ظل مؤجلا لعقدين من الزمن. رحل سيد قصر قرطاج في أقل من 12 دقيقة إلى منفاه القسري بمسقط رأسه في المنستير.
يحار الكاتب والمحلل في قراءة ما حدث في تونس خلال هذا الأسبوع، فدولة بن على الحصينة أمنيا تهاوت في أقل من 29 يوما هي عمر المظاهرات الشعبية التي أشعلها انتحار الشاب محمد البوعزيزي احتجاجا على مصادرة عربته التي يبيع منها الفواكه، وهو الجامعي العاطل عن العمل. لا أحد كان يتصور أن النظام الأمني الذي جعل تونس بلدا عصيا على المراقب الخارجي، قد ينهار في وقت قياسي، وأن يجد البلد نفسه في فراغ سياسي لم يعهده من قبل. ما نشهده اليوم هو حالة من الخوف واللايقين بالمستقبل؛ لكنه من الواضح أن الانتفاضة الأخيرة قد بلغت مداها، في حين فشلت انتفاضات سابقة لم يحالفها الحظ.
في ديسمبر (كانون الأول) 1983، قررت الحكومة التونسية رفع أسعار الخبز في ظل ظروف اقتصادية صعبة، لقد قال رجال الرئيس حينها إن الخزانة خاوية، وإنه ليس ثمة من مخرج إلا بتصحيح الوضع الاقتصادي، ولكن الذين يشعرون بالحرمان وقد أعياهم الانتظار في طوابير الوظائف سوف يخرجون للاحتجاج على الأوضاع، لقد انطلقت المظاهرات حينها من الجنوب المهمش لتطال انتفاضة laquo;الخبزraquo; المدن التونسية حتى وصلت إلى العاصمة. عاد بورقيبة إلى قصر قرطاج، وأعلن حالة الطوارئ، وحين عجز البوليس والقوات المضادة للشغب عن السيطرة على الوضع أمر الرئيس الجيش بالنزول، وقد انتهت المواجهة بسقوط الكثير من القتلى والجرحى، وحينها تراجع بورقيبة عن الزيادة.
ألا تذكرك هذه الحادثة، بما وقع في تونس خلال الأيام القلائل الماضية.. لقد عجز النظام المنتهي للتو عن معالجة الأزمة، بل وتأخر في الاستجابة لها، وحين خرج الرئيس ليعترف بفساد الذين حوله وخذلانهم له، لم تنفع الوعود، وتخلى الجيش - كما فعل ببورقيبة 1987 - عن نصرته.
اليوم، تعيش تونس حالة اختبار كبيرة، فهي يراد منها أن تقوم بعملية انتقالية سلمية تنتهي بإقامة انتخابات حرة ونزيهة، وتقود إلى خروج البلد من حالة التضييق، وقمع الحريات، وانعدام الأمل.. ولكن أهم تحدّ ستواجهه هو في قدرتها على المحافظة على مكتسبات الحداثة والمدنية التي لطالما ميزت هذا البلد المتحضر، وإقامة حكم ديمقراطي نموذجي لا يعود بها إلى الوراء.
الذين يرون في ما حدث ثورة محقون بعض الشيء، ولكنها ثورة لم تكتمل بعد، وما زال أمامها اختبار حقيقي. لقد استطاع التوانسة استعادة القرار من يد رئيس مستبد قرر أن لا يشركهم فيه، ولكن يجب أن لا ننسى أيضا أن بعض رموز النظام ما زالوا في السلطة، وقد أصبح من مسؤوليتهم إدارة المرحلة الانتقالية، ولهذا فإن من الصعب تقرير ما إذا كان ما نشهده الآن ثورة بالمعنى التقليدي. المؤرخون والدارسون وحدهم قد يتمكنون من تقرير ذلك بعد أن يمر على البلد الوقت الكافي ليستقر، وليتحدد مستقبله.
يفرق تشارلز تيلي (1978) بين أربعة أنواع من التغيير السياسي: الانقلاب، والحرب الأهلية، والانتفاضة الشعبية، وأخيرا الثورات العظيمة، وهذه الأخيرة تستلزم مسح النظام الدستوري والسياسي والاجتماعي السابق، وإحلال نظام قيمي جديد. ما يحدث في تونس حتى الآن هو مزيج من بعض هذه الأنواع كلها، فهناك ملامح اتفاق غير واضح تواطأ عليه الجيش مع الوزير الأول ورئيس البرلمان، وهناك أيضا دلائل كبيرة على انتفاضة شعبية قوية دفعت باتجاه التغيير، وهناك أيضا ملامح ثورة قادمة تعد بتغيير الوجه السياسي والدستوري لتونس كما نعرفها.
حاليا، فإن الدستور الذي صنعه بورقيبة، وساهم بن علي في تعديله من بعده، ما زال هو المرجع على الرغم من نقائصه، وهذا يدفعنا إلى الاعتقاد بأن النخبة الحاكمة في تونس لا تزال حاضرة، حتى وإن أشركت أطراف من المعارضة في الحكومة الانتقالية. لأجل هذا يصعب التكهن في المرحلة الراهنة بما إذا كان ما نشهده ثورة بالمعنى التقليدي، بل ربما انتهى الأمر بتعديل دستوري محدود وليس تبديلا للنظام الدستوري، والقانوني، والاجتماعي للبلد.
لا شك أن أي نظام لا يتمتع بالشرعية الكافية في المنطقة يفكر جيدا في ما حدث بتونس؛ بيد أن تكرار التجربة ليست أمرا حتميا، فثورات كثيرة ظلت محصورة في بلدانها وإن انتقلت أفكارها بشكل نسبي إلى الخارج، تأمل فقط في الثورة الإيرانية 1979. لقد كان النظام السابق مستبدا، وفاسدا، ولكن ما أسقطه في المقام الأول كانت الأحوال الاقتصادية المتردية خلال العامين الأخيرين، وعدم استجابته لنصائح المؤسسات الدولية بضرورة الالتفات إلى الطبقات المعدمة والفقيرة.
اليوم، يواجه التونسيون مرحلة جديدة عليهم فيها أن يستعيدوا النشاط الاقتصادي للبلد، بما في ذلك القطاع السياحي الحيوي لاقتصاد البلاد. الكرامة والحرية أمران مهمان، ولكن الناس تريد أن تؤمن مصدر قوتها وكفايتها، وديمقراطية نزيهة بأفواه جائعة لا تضمن عدم تكرار ما حدث، فالذين خرجوا ضد النظام السابق رغم قبضته الحديدة سيخرجون على أية حكومة من بعده. لقد حقق بن علي تقدما اقتصاديا ملحوظا في تونس خلال العقد الماضي، ولكن فاته أن الشرعية هي الضمانة الوحيدة في وقت الأزمات.
يروي الصافي سعيد أيام المنفى التي عاشها بورقيبة، حيث إن الرئيس المخلوع كان أكثر ما يعانيه هو الملل وانتظار النهاية التي لا تجيء، وحتى يخدع هذا القلق الممزوج بالملل يلجأ إلى الهاتف فيطلب أرقاما كيفما اتفق، وما إن يرد الطرف الآخر حتى يقول له: laquo;هل أنتم عائلة منستيرية؟ أنا الحبيب بورقيبةraquo; ثم يضع السماعة، وقد اتصل مرة بالإذاعة المحلية غاضبا: laquo;أنا سبب وجودكم ولا تذكرون اسمي مرة واحدةraquo; (بورقيبة.. سيرة شبه محرمة: 2000).
لقد انحرف بن علي طويلا، ولم يجرؤ أحد على أن ينصحه، أو يمنعه من الاستبداد. لقد أراد أن يكون laquo;البايraquo; الحاكم بلا منازع، ولكن حتى laquo;البايraquo; في حاجة إلى الشرعية، وها هو اليوم يرحل إلى المنفى ليطويه النسيان.