توفيق المديني

خطت تونس يوم الإثنين 17 كانون الثاني / يناير الجاري خطوة أخرى في عملية التغيير التي أطلقتها الانتفاضة الشعبية، بتأليف quot;حكومة وحدة وطنيةquot; برئاسة محمد الغنوشي مكلفة إدارة الفترة الانتقالية إلى حين تنظيم انتخابات رئاسية ونيابية، وضمت للمرة الأولى أحزاباً معارضة، الا أنها أبقت الحقائب الرئيسية، كالدفاع والداخلية والمال والخارجية، في أيدي أتباع النظام السابق، وهو ما أثار تشكيك بعض اقطاب المعارضة والشارع التونسي.
إن أول ما يستوقف المتابع للأوضاع السياسية في تونس عامة، هو حدود التغيير وإمكانياته، لا سيما في ظل استمرارية احتفاظ حزب التجمع الدستوري بالحكم منذ الاستقلال إلى اليوم، أي على مدى أربعة وخمسين عاماً من دون انقطاع، وهو يكاد أن يكون حالة منفردة في العالم. علماً أن الأحزاب الشمولية الواحدية التي حكمت في أوروبا الشرقية، أو في بلدان العالم الثالث قبل نهاية الحرب الباردة اكتشفت أن شعبيتها تراوح بين عشرين وخمس وعشرين في المئة لدى خوضها انتخابات تعددية وشفافة مع أحزاب منافسة بعد زوال سلطتها المتفردة.
من هنا، تقول أحزاب المعارضة ان الإصلاح الديموقراطي الحقيقي الذي يجب على حكومة الغنوشي القيام به، هو الفصل الراديكالي بين حزب التجمع الدستوري الديموقراطي الحاكم والدولة، واستبدال القانون الانتخابي الأغلبي بنظام انتخابي انتقالي يضمن لأحزاب المعارضة حضوراً محترماً ومؤثراً في الحياة البرلمانية. وفضلاً عن ذلك، فإن القانون الانتخابي الحالي لا يسمح بتكريس مبدأ تداول السلطة، ويعيد إنتاج نظام الحزب الواحد، ما يجعل أحزاب المعارضة الرسمية التي تصل إلى البرلمان مشكوكاً في مصداقيتها السياسية، لأن المعيار الذي يتم في ضوئه اختيار ممثليها في البرلمان ليس معياراً انتخابياً يستند إلى استقلالية الحزب وشعبيته لدى الرأي العام، وإنما هو معيار سياسي، بسبب تحالفها مع السلطة.
باستثناء أحزاب المعارضة غير المعترف بها رسمياً، والتي تعتبر أن هناك حاجة موضوعية، إلى التغيير السياسي في النظام القائم، لم تبرز لا من داخل النظام ولا من أحزاب المعارضة الرسمية المعترف بها، باستثناء الأحزاب الشرعية التي أفلتت من قبضة التدجين وهي الحزب الديموقراطي التقدمي بقيادة مية الجربي وزعيمه التاريخي محمد نجيب الشابي، وحزب التجديد (الشيوعي سابقاً) بقيادة أحمد إبراهيم وحزب التكتل الديموقراطي من أجل العمل والحريات بقيادة مصطفى بن جعفر، رؤية جديدة تنادي بالتغيير. وحتى إن برز بعض النقد الخجول، فإنه يطالب بإجراءات تجميلية للنظام القائم، بهدف إعادة ترتيب البيت الداخلي، وضمن منطق المحافظة على المكاسب والامتيازات، ويرفض أي تغيير جذري يقود إلى انتقال من سياسة تسلطية بوليسية إلى سياسة تتبنى رؤية أشمل للديموقراطية تقوم على دمج المعارضة، وتقتضي تأمين حقوق الإنسان للجميع، أي بناء ديموقراطية شاملة تشترك فيها أحزاب متعددة لا تستبعد المعارضة في جوانب كثيرة من المشاركة السياسية في البرلمان، وفي مجلس الوزراء، وفي رئاسة الدولة الخ..
إن قضية تحديث الديموقراطية وإصلاح نظامها في تونس بعد سقوط حكم بن علي تتطلب تصميماً سياسياً، وأسلوباً جديداً في التعاطي مع واقع المعارضة التونسية على اختلاف مشاربها الفكرية والسياسية. فهل إن رئيس الوزراء محمد الغنوشي باعتباره سياسياً معتدلاً ويحظى بمساندة قوية من المؤسسات الدولية المانحة، ومن الاتحاد الأوروبي مستعد لتقديم تنازلات مهمة كالاعتراف بأحزاب المعارضة الحقيقية: حركة النهضة التي يقودها الزعيم الإسلامي الشيخ راشد الغنوشي، وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية الذي يقوده الدكتور منصف المرزوقي، وحزب العمال الشيوعي التونسي الذي يقوده المناضل حمه الهمامي، لأن الأحزاب الرسمية المعترف بها : حركة الاشتراكيين الديموقراطيين، وحركة الوحدة الشعبية، والاتحاد الوحدوي الديموقراطي (حزب قومي )، وحركة التجديد( الحزب الشيوعي سابقا)، يعتبرها الشعب التونسي أحزاب موالاة للسلطة. والأمر عينه للمنظمات الشعبية، فهي تابعة للحزب الحاكم، وكذلك الأمر للحياة الجمعياتية البالغ عددها 7 آلاف جمعية ما عدا بعض الجمعيات المحدودة مثل الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان؟
إن الإصلاح الديموقراطي في تونس يتقدم بتوافر الشروط الأساسية التالية:
1 - وحدة قوى المعارضة، ومِن ثُم الوحدة الجدلية للمعارضة والسلطة، التي تقوم على مبدأ التداول السلمي للسلطة.
2 - تحويل الدولة البوليسية التونسية، إلى دولة وطنية تكون التعبير الحقوقي والسياسي عن هوية المجتمع. ولا يتحقق ذلك إلا بسيادة القانون والحرية، وفصل السلطات، واستقلال مؤسسات المجتمع المدني، على قاعدة حرية الفرد وحقوق الإنسان والمواطن.
3 نمو الحركة الشعبية في مناخ الحرية الفكرية والسياسية. فلا يمكن التقدم في مجال الإصلاح الديموقراطي من دون القوى الحية في المجتمع المدني، واحترام حقوق المواطنين بوصفها أهم واجبات الدولة، واحترام حقوق المعارضة بوصفها أهم واجبات السلطة. الدولة الوطنية يجب أن تتأسس على قاعدة احترام الحريات العامة والفردية، ومبادئ العدالة، والحقوق المطلقة للمواطنين التي لا يجوز التصرف بها، فليس للدولة أن تَفرُض أيّاً من الواجبات على مواطنيها، وليس للسلطة أن تَفرُض أيّاً من الواجبات على المعارضة. ذلك لأن قوام الدولة والسلطة الممسكة بزمامها هو القانون، والسهر على حسن تطبيقه، فهما أي الدولة والسلطة تعبيران مباشران عن الكلية العينية، كلية المجتمع والشعب. والقانون لا يقوم إلا على قاعدة الحقوق، وهذه تنتمي إلى دائرة الموضوعية، أما الواجبات فتنتمي إلى دائرة الذاتية. القانون لا يعنى بالواجبات لأنها جزء من الحياة الأخلاقية الفردية والاجتماعية، ومبدؤه هو الحرية أو الإباحة.