عصام نعمان

كم هي مترعة بالدروس والعِبَر انتفاضة تونس. إنها دروس للشعوب وعِبرَ للحكومات, لا سيما للعرب, محكومين وحاكمين, وللغرب الأطلسي بشطريه الاوروبي والامريكي.

كم كانت الشعوب, في معظمها, مغشوشة بحكامها, والحاكمين مغشوشين بظاهر الاوضاع السكونية التي تستبطن حركات شعبية تنبثق من تحت لتنفجر غضباً وثورةً على من هم فوق.

ينخدع بعض المحكومين بمظاهر الحاكمين وقدراتهم المضخمة, ويرتعب بعضهم الآخر من ارهابهم وتغوّلهم في استخدام القوة المفرطة, وقد يستسلم فريق ثالث لإغراء المال ورغد العيش يجود بهما اهل الجود من حاكمين أغراب وأعراب في quot;عصر زيت الكازquot;, فيدجّن الجميع أنفسهم ويرضخون وقد يركعون.

هذه كانت القاعدة في دنيا العرب طوال عصور واجيال. فجأة تنبري تونس لتصنع الاستثناء على غير انتظار. فجأة ينفجر المحكومون من تحت, من دون زعماء واولياء وبمعزل عن ضباط وعساكر, ليطلقوا زلزال الغضب في وجه الحاكمين الجبناء, أكابر وأصهاراً, ويكرهونهم على الفرار.

هكذا, خلال ايام قليلة عاصفة ودامية, ثار المحكومون وليس على رأسهم قائد, فقد كان الشعب هو القائد, ليصنعوا بإتقان اول سابقة في تاريخ العرب المعاصر : إسقاط حاكم بانتفاضة شعبية.

فوق ذلك, ثمة معجزة اخرى صنعتها انتفاضة تونس. فقد تمّ اسقاط الحاكم المستبد من دون اي مساعدة خارجية. كما لم تلوّن الانتفاضة او تخالطها اي ايديولوجيا مميزة دون غيرها, ولم ترفع ايدي الناس إلاّ رايات ورسومات وشعارات ترمز الى المبادىء الثورية والقادة الثوريين العالميين الذين اضحوا جزءاً من تراث حقوق الانسان والحريات الديمقراطية في شتّى أنحاء العالم.

وكم كان لافتاً ذلك الاستقلال الناجز عن العسكر في كفاح شعب الانتفاضة. فعندما تتم الانتفاضة دونما مشاركة العسكر فإن ذلك يعني انجازاً مدوّياً : لا ارتهانا للجيش بما هو, في كثير من الاحيان, اداة الخارج في السيطرة على الداخل.

الى ذلك, ثمة انجاز آخر بالغ دلالة. فقد اخرجت الانتفاضة الشعبية تونس من قبضة الغرب الاوروبي والامريكي دونما إيحاء بأنها في صدد ادخالها في مسار تحالف دولي, سياسي و عسكري, آخر.

رافقت الانتفاضة التونسية وأعقبتها ظاهرتان لافتتان:

الاولى, مسارعة صحف الغرب ثم حكوماته باكراً الى فك ارتباطها بالدكتاتور الساقط. أجل, غسل الغرب يديه من جرائم زين العابدين بن علي وكأنه كان غريباً عن زرعه وتعهّد نمائه وبقائه 23 سنة في السلطة. لم يكتفِ الغرب, بإعلامييه وسياسييه, بالتنصل من الدكتاتور الفار بل حرصت حكوماته على رفض ايوائه ما يذكّّر بسقوط شاه ايران وتهرّب الولايات المتحدة من ايوائه بعض الوقت ليتسنى له ان يموت متأثراً بمرضه العضال.

الثانية, موافقة السعودية على استقبال الحاكم الفار وايوائه بعدما ضنّت عليه فرنسا, حليفته العتيقة, بملجأ آمن. هذا يذكّر برضوخ انور السادات لضغوط امريكا وبالتالي استقباله الشاه المخلوع بدعوى تمكينه من إجراء عملية جراحية مزعومة. اليس من حق دعاة الحرية وحقوق الانسان في عالم العرب وعالم الغرب وفي كل مكان ان يتساءلوا : ما مصلحة مصر والسعودية, وأي خدمة للانسانية يقدمانها بقبول حكومتيهما ان تكونا ملاذاً للنفايات السياسية من شتى انحاء العالم العربي والاسلامي?

اذ تحررت تونس من قبضة الغرب, يتساءل اللبنانيون وانصارهم من دعاة الحرية وحقوق الانسان واعداء الصهيونية في دنيا العرب والعالم : هل من مخرج للبنان من قبضة الغرب الاطلسي?

صحيح أن الوضع اللبناني يختلف عن الوضع التونسي في نواحٍ عدة, لكنهما يشتركان في قاسم مشترك هو أنهما كانا وما زالا مركز اهتمام دولتين كبيرتين حريصتين على إبقاء البلدين ساحتين لتصفية حسابات اقليمية ونقطتي وثوب على دول وساحات مجاورة. واذا كانت امريكا وفرنسا سلّمتا, إزاء انتصار الانتفاضة الشعبية, بالحقائق السياسية المستجدة في تونس, فإنهما لم تسلّما بحقيقة خروج سعد الحريري نهائياً من السلطة في لبنان او, في الاقل, لغاية الانتخابات النيابية القادمة.

لعل ما يساعد امريكا وفرنسا على المضي في محاولة دعم الحريري وحلفائه ان هؤلاء يتمتعون بتمثيل قوي في مجلس النواب لا يقل عن 57 نائباً من مجموع .128 غير ان قوى المعارضة (السابقة) المكوّنة من نواب كتلة الاصلاح والتغيير, وحركة امل, وحزب الله, وكتلة سليمان فرنجية, وحزب البعث العربي الاشتراكي, والحزب السوري القومي الاجتماعي تتمتع بما لا يقل عن 58 نائباً, اي ينقصها نحو 7 نواب لتحوز الاغلبية النيابية البالغة 65 نائباً. ويعتقد مراقبون ان رئيس كتلة quot;اللقاء الديمقراطيquot; وليد جنبلاط قد يوّفر للمعارضة الفارق المطلوب إنما بعد التفاهم مع اطرافها على الاهداف المطلوب تحقيقها في المستقبل.

ثمة محاولات للتوفيق بين الاطراف المتصارعين تقودها تركيا وربما تشمل امريكا وفرنسا وسورية وقطر والسعودية ومصر, هدفها الاول منع الفتنة ودعم الاستقرار, ومن ثم توفير مكسب للمعارضة وآخر للموالاة بغية الخروج من المأزق. مكسب المعارضة هو العودة الى اعتماد التسوية السورية-السعودية التي تقضي بفك ارتباط لبنان بالمحكمة الدولية على اراضيه وذلك بإعلان عدم دستورية الاتفاقية التي عقدتها حكومة فؤاد السنيورة مع الامم المتحدة وأرسى مجلس الأمن على أساسها قراره رقم 1757 بإقامة المحكمة مع ما يستتبع ذلك من وقف مساهمة لبنان المالية في ميزانيتها وسحب القضاة اللبنانيين منها ووقف تنفيذ احكامها وإجراءاتها في الاراضي اللبنانية. quot;مكسبquot; الحريري وحلفائه هو بقاء المحكمة في لاهاي وبالتالي امكانية صدور قرار اتهامي عنها بإدانة حزب الله باغتيال رفيق الحريري الامر الذي يرضي امريكا!

من المستبعد ان توافق امريكا على مطلبي فكّ الارتباط بالمحكمة وابعاد الحريري عن رئاسة الحكومة الجديدة, وهما ما ترمي اليهما قوى المعارضة في نهاية المطاف. في المقابل ترى قوى المعارضة ان المحكمة والحكومة خطان لا يلتقيان وأنها, نتيجةَ التجربة, لا يمكنها التعاون مع الحريري كرئيس للحكومة. وهل يمكنها التعاون معه بعد انكشاف دوره في تصنيع شهود الزور بالاشتراك مع نائب رئيس لجنة التحقيق الدولية غيرهارد ليمان ووسام الحسن ومحمد زهير الصديق شخصياً? ومع ذلك تبقى المعارضة على استعداد للقبول بشخصية توافقية للاضطلاع برئاسة الحكومة شريطة موافقتها على فك الارتباط بالمحكمة, وحماية المقاومة, وتوطيد الامن الوطني, ومواجهة الضائقة المعيشية, ومكافحة الفساد, ووضع قانون ديمقراطي للانتخاب على أساس التمثيل النسبي. ويبدو ان امريكا والحريري وحلفاءه بعيدون عن الرضوخ لهذه المطالب.

من المحتمل جداً ان تتعقد الازمة ويطول الصراع. غير ان قوى المعارضة تبدو واثقة من قدرتها على تكييف الوضع السياسي لمصلحتها, وبالتالي على حسمه باتجاه إقرار استحالة العودة الى الوضع الحريري- الامريكي السابق بغية الحؤول دون استئناف انتاج المزيد من الشيء نفسه.

دقت ساعة التغيّر والتغيير. فهل يكون شعب لبنان, بدعم من المقاومة والقوى الحية, هو القائد كما كان شعب تونس, وينجح في الخروج من قبضة الغرب الاطلسي, أم أن القوى الظلامية ستلجأ مرةً اخرى, الى تحويل الصراع, بدعم من امريكا وإسرائيل, الى فتنة طائفية ومذهبية?0