رياض معسعس

قبل أيام من الرابع عشر من تموز/ يوليو أيقظ الدوق دولاروش فوكو الملك لويس السادس عشر ليعلمه بالاضطرابات التي تعم العاصمة باريس. سأل الملك بسذاجته المعهودة: هل هو تمرد؟ فرد عليه الدوق بحزم المتيقن: لا ياسيدي، إنها الثورة.
ولم تمض أيام حتى انطلقت نساء سانت أنطوان إلى قصر فرساي يطالبن الملك بالخبز. ماري انطوانيت التي لم تكن تعي تماما ما معنى معاناة الناس، لأن الحياة ضمن جدران قصر فرساي كانت تحجب الرؤيا الحقيقية عن مآسي الشعب الفرنسي والظلم الذي كان يتعرض له من قبل النبلاء، تساءلت بسذاجة أيضا لماذا لا يأكلون البسكويت إذن. الملك، ورغم ذلك وعد المطالبات والمطالبين بحل أزمة الجوع، ودعا الجميع للنوم في حديقة القصر لصباح اليوم التالي والعودة إلى باريس التي تبعد حوالي ثلاثين كيلومترا عن فرساي. لكن تلك الليلة كانت الليلة الأخيرة لهذا الملك آخر ملوك عائلة البوربون في هذا القصر المنيف. إذ أن شجارا نشب بين أحد المحتجين وأحد حراس الملك الذي أطلق النار على هذا المحتج فأرداه قتيلا. هذه الرصاصة القاتلة أشعلت فتيل الثورة الحقيقية ودخل الثائرون إلى مخدع الملك وجروه جرا إلى عربة واقتادوه إلى باريس حيث تم قطع رأسه ورأس الملكة بعد حين. لكن الثورة الفرنسية التي أكلت أبناءها كالقطط، انتهت بعد فترة إدارة الدكتاتور الأحمر روبيز بيير التي اتسمت بقمع رهيب، وتدحرج الرؤوس تحت شفرة المقصلة، بإمبراطورية نابليون الأول، وفيما بعد بعودة الملكية وإجهاض أحلام الثوريين بعد أن وئدت ثورتهم.
ولكن ورغم ذلك فإن هذه الثورة، وإن لم تؤت بثمارها الفعلية في الحرية والديمقراطية، إلا بعد جمهوريات عدة وانتفاضات متكررة، إلا أنها أفرزت فكرا فذا، ومبادىء يفخر بها الفرنسيون والتي باتت كتابا مقدسا للعالم أجمع، وهي مبادىء حقوق الإنسان، والعلمانية. هذه الثورة، وهذه المبادىء دبت الهلع في أوصال الدول الأوروبية المحيطة آنئذ، وجميعها كانت تخشى انتفاضة شعوبها ضدها كون أوضاع شعوبها لم تكن أفضل حالا من الشعب الفرنسي. فباتت تتآمر ضدها، وتتحالف فيما بينها حتى نجحت في معركة واترلو الشهيرة بالإجهاز عليها.
ما أشبه الثورة التونسية، وظروفها، بالثورة التونسية وظروفها. فالثورتان وقعتا في الرابع عشر من الشهر. والثورتان اندلعتا بشكل عفوي من قبل شعوب جائعة تبحث عن لقمتها وكرامتها. والثورتان اشعل فتيلهما رجلان: الأول قتل برصاص حرس الملك، والآخر أحرق نفسه في ساحة المدينة. والثورتان تربصت بهما شرا كل الدول المحيطة بهما وغير المحيطة. ولكن مع فارق بسيط هو أن الملكة انطوانيت كانت سليلة ملوك لم تكن تعرف الفاقة فلم يكن بمقدورها الشعور بألم الآخرين، لكن ليلى الطرابلسي زوجة بن علي وليدة الطبقة الكادحة التي لم تكن قبل أن تتعرف على بن علي سوى حلاقة بسيطة في منطقة شعبية وعاشت ألم الحرمان، لم تكن بأفضل من الملكة، بل إنها تمادت وعائلتها في تعميق مأساة الشعب التونسي بنهب أمواله، والتسلط على أملاكه.
أما الدول العربية اليوم التي لم تستيقظ بعد من هول الصدمة العنيفة التي تلقتها، والتي لم تكن تتوقعها أبدا، لا تعرف كيف تتصرف إزاء درء العدوى التي يمكن أن تصيب شعوبها التي ليست بأفضل حالا من الشعب التونسي، فالشعوب هذه ترزح تحت وطأة الأنظمة الدكتاتورية، والأحادية منذ عقود، التي صادرت الحريات، وأودت البلاد والعباد إلى التهلكة، بعد سنوات طويلة من الفساد، والنهب، وتهريب الأموال، وسفك الدماء، والزج بكل من تفوه بكلمة حق في غياهب السجون. ولا يقتصر ذلك على الدول العربية، وللأسف فإن دولا غير عربية تشاطرها الهلع والخوف من هذه الثورة التي يخشى منها أن تدك العروش، وتسقط الرؤوس بشفرة مقاصل شعوبها الثائرة. فهل يعقل أن بلد الثورة الفرنسية العظيمة أن تلتزم صمتا مطبقا حيال الثورة التونسية؟ وتعرض وزيرة خارجيتها على النظام البائد إرسال تعزيزات فرنسية لقمع هذه الثورة؟
ما أشبه اليوم بالأمس، فهذه الثورة مازالت غضة العود، كوليد جديد في مذأبة، تتحين الذئاب منه فرصة لتمزقه بأنيابها للتخلص منه إلى الأبد. فأخشى ما يخشى أن تأكل الثورة أبناءها، ويتم الالتفاف عليها، ويتمكن الذئاب من الانقضاض على الوليد.