عبدالله بن بجاد العتيبي

quot;نحن نحب هذا الرئيس لأن صدره مفتوح. إنني أشعر أنه الوحيد الذي يفهمناquot;، quot;فهمتكوا.. فهمتكُمquot; هاتان عبارتان معبّرتان بينهما مساحة تمتد لثلاثة وعشرين عاماً، الأولى قالتها موظفة التلكس في فندق أو نزل تونس أفريقيا- ميريديان، كما نقل عثمان العمير في كتابه مقابسات نهاية القرن ص124، والثانية للرئيس بن علي في آخر خطابٍ وجهه لشعبه قبل الهروب الكبير.

الفهم الأول مصدره مواطنة تونسية، والفهم الثاني مصدره الرئيس المخلوع، لقد كان الشعب ndash;كما عبّرت الفتاة- يشعر حينذاك أنّ رئيسه يفهمه، وحين أزفت الآزفة وحلّت الكارثة عاد بن علي ليحاول هو أن يفهم الشعب من جديد، وما بين هذين الفهمين قصة طويلة لتونس كبلدٍ وشعبٍ وصولاً إلى الثورة أو الانتفاضة أو غيرها من التسميات، فليست التسميات مهمةً بقدر أهمية واستثنائية الحدث نفسه.

ألقى الشعب التونسي بحركته القوية حجراً ضخماً في مياه السياسة العربية الآسنة، وأخلّ بالكثير من المعادلات التي كانت قائمةً قبله، فمع تراجع خطر الإرهاب نسبياً في العالم، ومع الأزمة المالية العالمية، ومع تطوّر وسائل الاتصال الحديثة بدأت تظهر على سطح المشهد العربي العام مشاكل أخطر، كالبطالة والقمع والظلم والأثرة والفساد، والمؤدية بالتالي إلى المطالبة بالشغل أو العمل والحرية والعدالة والمساواة والإصلاح، وهي مطالب كثير منها قديم ولكنّها الآن أصبحت أولوية للشعوب المستفيقة ويجب أن تكون كذلك بالنسبة للحكام الواعين، فمواكبة أولويات المجتمعات والشعوب مهمة شديدة الأهمية.

إن تطوّر آليات التواصل والاتصال في العالم هو تطوّر مذهل، وأغلب روّاده والمنخرطين فيه هم من جيل الشباب الذي يشكّل الأغلبية الكبرى من شرائح الشعوب في العالم العربي، ومن هنا فإن مؤشر الشباب وجيل العولمة المنخرط فيها بقضّه وقضيضه جدير بالعناية والملاحظة، فهؤلاء جيل تشرّب قيم العولمة وأبدع في استخدام منتجاتها الحديثة واستطاع أن يؤثر تأثيراً بالغاً، وتونس خير شاهدٍ في هذا السياق.

إن حدثاً بضخامة ما جرى في تونس أثار وسيظلّ يثير الكثير من الأسئلة، فهو حدث ضخم بميزان التاريخ وحدث جلل بميزان الواقع، لم يتنبأ به أحد، ولم يشر له باحث، ولم يتوقّعه مؤرخ، وكاذب كل من زعم أن له دوراً فيه قبل بدئه، ومن الأسئلة التي أثارها الحدث هو هل ستتأثر الشعوب العربية بما جرى في تونس؟ ولئن كانت الإجابة نعم فما هي طبيعة هذا التأثر؟ وما حجمه؟ وكيف سيتجلّى؟ ثمّ كيف ستتعامل الأنظمة مع تموّجات الحجر التونسي في بحر السياسة العربية؟ أسئلة ملحة في هذه اللحظة التاريخية المضطربة من تاريخ تونس وتاريخ الدول العربية.

يمكن رصد عملية التأثر بالحدث عبر عدة تجليات: الأول: عمليات إحراق الأجساد تلك التي تسارع العديد في الأفراد في استنساخها في أكثر من بلد عربي من الجزائر إلى اليمن مروراً بمصر وغيرها، والثاني: في انتشار ظاهرة المظاهرات في الشوارع، فثمة مظاهرات في الجزائر وأخرى في الأردن وقد تنتقل العدوى لغيرهما من البلدان بسهولة، أمّا التجلي الثالث: فهو تصاعد وتصعيد مطالبات التغيير أو الإصلاح في أكثر من بلد عربي، ما يشير بوضوح إلى أن للحدث التونسي تأثيراً قوياً في المحيط العربي، لم يصل نهايته بعد، ولا أحد يدري أين سيقف؟

المشهد الإسلامي تجاه الحدث التونسي يدلّ على تحفّز ومحاولات حثيثة لتجيير الحدث لصالح هذا التيّار الإسلامي أو ذاك، وثمة احتمال قائم في أن تحاول حركات الإسلام السياسي القفز على الحدث وتوجيهه لغاياتها المعروفة، فقد تحدّث القرضاوي في أكثر من مناسبة عن الحدث ومنها خطبة الجمعة، وأخرج المتشدد المعروف عبدالرحمن البرّاك فتوى ترّتب لأهل تونس ما يجب وما لا يجب من وجهة نظره، ونسي هؤلاء وأمثالهم كثير أن الشعب التونسي المثقف والواعي ليس بحاجة لأن ينظّر عليه أحد في رعاية شؤونه وترتيب بيته الداخلي، ولئن احتاج شيئاً فلربما احتاج لتحليل واع أو دراسة علمية معتبرة، ولكنّه بالتأكيد لن يستفيد من خطبة جمعةٍ ولا فتوى متشدد، وقد عرض التلفزيون الرسمي التونسي برنامجاً حوارياً أجمع فيه المشاركون على أن القرضاوي وغيره أن يهتموا بأنفسهم وبأوطانهم، وأن مثل هذه الطروحات غير مقبولة تونسياً.

على مستوى الداخل التونسي هناك ضبابية في الرؤية وتشتت في الغايات واختلاف حول الوسائل، وهذا وإنْ كان أمراً طبيعياً فإن التعامل معه يجب أن يكون بالجديّة اللازمة، فهو واحد من أهم العوامل التي ستحدد نجاح أو فشل الحراك التونسي برمّته، خذ مثلاً الموقف من الحزب الحاكم سابقاً، وهل يجب حلّه أم تنقيته؟ والموقف من الحكومة الحالية، هل يجب أن تكون حكومةً مؤقتةً أم حكومة تصريف أعمال؟ والموقف من توزير بعض رموز النظام السابق، ونحو هذا، وهو جدل مستحق وطبيعي، والرهان أن يتجاوز الشعب التونسي هذه المرحلة الحرجة بأكبر قدرٍ ممكن من التعقّل وضبط النفس حتى يبقى جمال التجربة كما هو يؤكد للكافّة أن الشعب التونسي شعب متحضر وأن ثورته ثورة متحضرة، وأن الشعب التونسي قادر على الابتعاد عن الانخراط في العنف والتخريب والتدمير.

لقد فرض الشعب التونسي نفسه بقوة على المشهد العام العربي سياسياً وثقافياً وإعلامياً، كما فرض نفسه على الموازنات والحسابات العالمية، وفرض نفسه ndash;أيضاً- على الفلاسفة والمنظّرين والساسة العالميين قبل العرب، وجعل الجميع مجرّد قارئين متأخرين للحدث، يمارسون أنواع التنظير العام، وليس لهم دور في ما جرى ولا في ما سيجري، فهذه ثورة التونسيين وسيديرونها بأنفسهم.

أحد تأثيرات الحدث التونسي على المجال العربي عامةً هو تحريك مطالبات الشعوب وتفعيل أنشطة المعارضات السياسية، ورفع سقف التوقعات الشعبية للإصلاحات السياسية والتنموية وبخاصةٍ ما يتعلّق بالحقوق والحريّات، ولئن كانت النخب ستحسب خطواتها ضمن الممكن والمتاح، فربما لا يمتلك جيل العولمة نفس القدرة على الصبر والتعقّل، وعلى الأقل فربما كانت هناك محاولات أو تجارب لفعل شيء ما يؤثر في الشأن العام.

بين شعور المواطنة التونسية البسيطة في ذلك الفندق بأن الرئيس بن علي هو الوحيد الذي يفهم الشعب وبين قول الرئيس السابق بن علي quot;فهمتكُمquot; ربع قرنٍ من الزمان، جرت في ساقية تونس الكثير من المياه، بعضها زلال وبعضها مر، وحين فقد الرئيس فهمه لشعبه فقد كرسيّه، ويبقى على الشعب التونسي أن يختار مساره الجديد بكل روية ووعي حتى تصل سفينة تونس إلى برّ الأمان والاستقرار والحرية دون خسائر فادحة أو حوادث تعكّر على التجربة ألقها الذي اكتسبته.