Mohamad Bazzi - Global Post

تخشى واشنطن أن يؤدي دعم الإصلاحات في منطقة الشرق الأوسط إلى وصول الجماعات الإسلامية إلى السلطة، فمن دون إفساح المجال أمام نشوء الحركات السياسية المنبثقة عن الشعب، سيكون للإسلاميين من أمثال laquo;الإخوان المسلمينraquo; في مصر النفوذ الأكبر بفضل شبكات الخدمات الاجتماعية التي يديرونها، وستحقق هذه الجماعات الفوز في أي استحقاق انتخابي حر، لذا يضطر الحكام الاستبداديون إلى ابتكار حيلة مناسبة لتجنب الانتخابات.

يشعر العالم العربي بالفخر تجاه الانتفاضة الشعبية التي حصلت في تونس، ما دفع الرئيس زين العابدين بن علي إلى الهروب من البلاد في الأسبوع الماضي، بعد 23 عاماً على وجوده في الحكم.

يتساءل الجميع الآن عما إذا كانت مبادرة التونسيين ستصبح مثالاً يُحتذى به للإطاحة بحكام دكتاتوريين آخرين في الشرق الأوسط. في الأسابيع الأخيرة، انتشرت احتجاجات محدودة في الجزائر والأردن ومصر، حيث سئم الناس من ارتفاع أسعار الغذاء واستفحال البطالة والفساد الحكومي، لكن في حال استمرت الاحتجاجات في تلك البلدان، فستلجأ القوى الأمنية على الأرجح إلى أعمال عنف أكبر مما شاهدناه في تونس لقمع حركة التمرد.

لم يتضح بعد أيضاً نوع النظام السياسي الذي سينشأ نتيجة الثورة التي حصلت في تونس، ففي حال تولت شخصية عسكرية نافذة زمام الأمور باعتبارها 'المنقذ' الذي سيعيد إرساء الأمن، أو في حال نجح عملاء بن علي في التمسك بالسلطة بعد زوال حالة الفوضى، عندها سيصبح احتمال حصول تغيير ثوري أقل جاذبية بالنسبة إلى العرب الآخرين.

لكن ما يتضح جلياً من 'المثال التونسي' هو أن الشعب في الشرق الأوسط فقد كل أمل في أن تكون الولايات المتحدة قوة دافعة نحو إحداث تغيير ديمقراطي، فبعد نشوء الانتفاضة في تونس، التزمت إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما الصمت حتى اليوم الذي هرب فيه بن علي من البلاد. عندها أدلى أوباما بتصريح يدين فيه استعمال أساليب العنف ضد المحتجين السلميين وهنأ التونسيين على 'شجاعتهم وكرامتهم'، لكن كان الأوان قد فات على فعل ذلك: فقد كان الدكتاتور المدعوم من الولايات المتحدة قد رحل أصلاً، وهكذا ترسخت قناعة العالم العربي بأن واشنطن تفضل الاستقرار على الديمقراطية.

لقد ورثت إدارة أوباما عقوداً من السياسة الأميركية الداعمة للأنظمة الاستبدادية مقابل الخضوع السياسي، إذ تعتمد معظم الحكومات في الشرق الأوسط على وكالات سرية تابعة للشرطة للبقاء في الحكم، وهي تستعمل 'الحرب على الإرهاب' كذريعة لإسكات المعارضة، تماماً كما فعل الرئيس التونسي الأسبق بن علي، وتوفر تلك الأنظمة غطاءً من الاستقرار الظاهري لمصلحة الغرب، بينما تكون أنظمتها السياسة هشة وفاسدة ومتحجرة.

في 13 يناير، أي قبل يوم من سقوط بن علي، ألقت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون محاضرة أمام مجموعة من القادة العرب الذين اجتمعوا في قطر لمناقشة ما تواجهه بلدانهم من خطر الانزلاق إلى متاهات مُهلِكة ما لم يُقدموا على إصلاح أنظمتهم السياسية والاقتصادية، فقالت كلينتون: 'قد يتمكن كل من يتمسك بالوضع الراهن من كبح الآثار التي تعكسها مشاكل بلدانهم لفترة قصيرة، لكنهم لن ينجحوا في ذلك إلى الأبد... إذا لم يقدم القادة رؤية إيجابية ويمنحوا الشباب فرصاً مهمة للمشاركة فيها، فإن أطرافا أخرى ستأتي لسد هذا الفراغ'.

سرعان ما ثبتت صحة كلمات كلينتون في اليوم التالي، ولكنها أغفلت عن ذكر أن معظم هؤلاء القادة كانوا حلفاء للولايات المتحدة، وسبق أن سمعوا الانتقادات عينها من المسؤولين الأميركيين مراراً وتكراراً.

في يونيو 2005، أعلنت وزيرة الخارجية الأميركية حينها كوندوليزا رايس أمام العالم أن الولايات المتحدة ستتوقف عن دعم الأنظمة القمعية باسم النفعية السياسية، فقالت في الجامعة الأميركية في القاهرة: 'طوال 60 عاماً، لطالما سعت بلادي، الولايات المتحدة، إلى إرساء الاستقرار على حساب الديمقراطية في هذه المنطقة، لكننا لم نحقق أياً من الهدفين... ها نحن الآن نتخذ مساراً مختلفاً، نحن ندعم الطموحات الديمقراطية عند جميع الشعوب'.

كان لرسالة رايس وقع قوي في العالم العربي، لكن لفترةٍ وجيزة، إذ حصل ذلك بعد خمسة أشهر على إظهار العراقيين شجاعة مدهشة من خلال التوافد بأعداد هائلة للتصويت في الانتخابات البرلمانية، في يناير 2005. في لبنان، ساهمت ثورة شعبية في التخلص من طغيان عسكري وسياسي سوري دام سنوات طويلة. في تلك المرحلة، كان يمكن أن تشجّع الولايات المتحدة على إحداث بعض التغييرات الحقيقية في المنطقة. لكن سرعان ما انهار الوضع عندما واجهت واشنطن أول اختبار لها، ففي أواخر عام 2005، قامت مجموعة صغيرة من القضاة المصريين بتحدي النظام الذي يرأسه حسني مبارك. هذه المرة أيضاً، التزمت الولايات المتحدة الصمت بينما كان النظام المصري يقمع الاحتجاجات الشعبية، ففهم العالم العربي أن واشنطن تخلت عن مطلب الديمقراطية، أو أنها لم تكن تعني كلامها في المقام الأول.

كانت هذه التناقضات الفادحة بين خطاب الولايات المتحدة وأفعالها هي التي قادت الشعوب في الشرق الأوسط إلى فقدان ثقتها بالولايات المتحدة وابتكار نظرية المؤامرة للتشكيك بنواياها. عندما تتابع الولايات المتحدة دعم الحكام الاستبداديين- مثلما هي الحال في مصر- ضد إرادة شعوبهم، عندها ستخسر واشنطن معظم نفوذها عند المطالبة بالإصلاح في أنظمة قمعية أخرى مثل إيران وسورية، كما أن تفضيل الاستقرار على القيم الديمقراطية سيعود ليطارد الولايات المتحدة على المدى الطويل.

إذا كان لدى الولايات المتحدة أي أمل في تعزيز النضج السياسي في العالم العربي، فعليها أن تدعم قيام نظام قضائي مستقل وصحافة حرة، وهما المؤسستان اللتان تعززان ازدهار الديمقراطية. قالت رايس نفسها في الخطاب الذي ألقته في عام 2005: 'سيأتي اليوم الذي سيحلّ فيه حكم القانون مكان قوانين الطوارئ، وستُستبدل العدالة التعسفية بالقضاء المستقل. يجب أن تحصل جماعات المعارضة على حرية التجمع والمشاركة والتحدث في وسائل الإعلام'. لكن لم تحصل أي خطوة عملية بعد ذلك الخطاب.

تخشى واشنطن أن يؤدي دعم الإصلاحات في هذه المنطقة إلى وصول الجماعات الإسلامية إلى السلطة، فمن دون إفساح المجال أمام نشوء الحركات السياسية المنبثقة عن الشعب، سيكون للإسلاميين من أمثال 'الإخوان المسلمين' في مصر النفوذ الأكبر بفضل شبكات الخدمات الاجتماعية التي يديرونها، وستحقق هذه الجماعات التي تتمتع بدرجة عالية من التنظيم الفوز في أي استحقاق انتخابي حر، لذا يضطر الحكام الاستبداديون إلى ابتكار حيلة مناسبة لتجنب الانتخابات. غير أن الديمقراطية لا تقتصر على العملية الانتخابية... إنها عملية بطيئة تهدف إلى ترويج الحقوق الفردية، وبناء المجتمع المدني، وتعزيز حرية الصحافة وتقوية مؤسسات الدولة. تستلزم هذه الجهود وقتاً طويلاً، وهي لا تجذب الأضواء بقدر ما يفعل أي حدث انتخابي سريع.

تبنى أوباما نفسه مقاربة ترويج الديمقراطية في خطابه الشهير الذي وجهه إلى العالم الإسلامي، في يونيو 2009، غير أن أوباما اختار إلقاء خطابه في مصر التي يحكمها أحد أبرز الأنظمة القمعية في الشرق الأوسط. تولّى مبارك الحكم منذ عام 1981 بموجب قانون الطوارئ الذي سمح له بسجن آلاف المعارضين من دون اتهامهم أو محاكمتهم، وبقمع النشاطات السياسية السلمية. يتلقّى نظام مبارك ما يقارب 1.8 مليار دولار سنوياً على شكل مساعدات أميركية، ما يجعله ثاني أهم مستفيد من المساعدات الخارجية الأميركية بعد إسرائيل (من دون احتساب الإنفاق الأميركي على حربي العراق وأفغانستان).

منذ إلقاء ذلك الخطاب، امتنعت الإدارة الأميركية عن ذكر أي شيء بشأن نشر الديمقراطية وأبدت تردداً في انتقاد حلفاء الولايات المتحدة الذين يفتقرون إلى المثل العليا التي تحدث عنها أوباما ببلاغة شديدة. كذلك، أعاقت الإدارة الأميركية تهديدات الكونغرس بربط المساعدات الأميركية المستقبلية بالإصلاح الديمقراطي أو تحسن سجل مصر في مجال حقوق الإنسان.

مع نشوء الثورة التونسية، فوّت أوباما فرصة إثبات قدرته أمام العالم العربي على تحويل كلماته المتكلفة إلى إنجازات ملموسة. يجب أن يستغل الفرصة المقبلة لإظهار الولايات المتحدة بصورة القوة المتعاطفة، أو البلد الذي يدافع عن المستضعفين ولا يسامح أعمال القمع.

* أستاذ في الصحافة في جامعة نيويورك ومساعد أحد كبار المسؤولين عن دراسات الشرق الأوسط في مجلس العلاقات الخارجية.