خيرالله خيرالله

لا بدّ من العودة مجددا الى مؤتمر مدريد ولكن من الزاوية الفلسطينية هذه المرّة. عندما انعقد مؤتمر مدريد للسلام قبل عشرين عاما، كان هناك وفد مشترك اردني- فلسطيني. اعترض الاسرائيليون حتى على لف احد اعضاء الوفد رقبته بشال يرمز الى فلسطين. كان اسحق شامير رئيس الوزراء الاسرائيلي وقتذاك يرفض كلّ ما له علاقة بفلسطين من قريب او بعيد. كان يعتقد ان القضية الفلسطينية انتهت في ضوء الخطأ التاريخي الذي ارتكبه ياسر عرفات الذي لم يتخذ موقفا واضحا يدين جريمة احتلال الكويت في الثاني من آب 1990.
بعد اقلّ من عامين على انعقاد المؤتمر، ذهب شامير الى بيته وكان الفلسطينيون يوقعون مع الاسرائيليين (في آب من العام 1993) اتفاقا سريا في اوسلو. لم تمض ايام الاّ ووجدت الادارة الاميركية، التي كان يرئسها بيل كلينتون، نفسها امام امر واقع. في ايلول، استقبل الرئيس الاميركي ياسر عرفات، الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني، واسحق رابين رئيس الوزراء الاسرائيلي في حديقة البيت الابيض وتحوّل شاهدا على توقيع اتفاق اوسلو بشكل رسمي.
تكمن اهمية اتفاق اوسلو، على الرغم من كل الثغرات التي تضمنها، في عبارة quot;الاعتراف المتبادل بين حكومة اسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينيةquot;.
فتح ذلك الباب واسعا امام تحقيق تسوية تاريخية بين الجانبين. فالقبول بتوقيع اتفاق مع منظمة التحرير الفلسطينية يعني، بين ما يعنيه، الاعتراف بوجود طموحات واضحة لدى الشعب الفلسطيني حددها البرنامج السياسي لمنظمة التحرير الصادر في العام 1988. على راس هذه الطموحات اقامة دولة مستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة.
حقق ياسر عرفات في اقلّ سنتين انجازا هائلا بكل المقاييس. انتقل من وضع الزعيم المنبوذ لمنظمة لا تزال موضع جدل في واشنطن، خصوصا بعد الخطأ الرهيب الذي ارتكبه ابان الغزو العراقي للكويت، الى شخصية دولية معترف بها مسموح لها بدخول البيت الابيض. وفي السنة 2000، كان quot;ابو عمّارquot; اكثر زعماء العالم ترددا على واشنطن دي.سي ومقر الرئاسة الاميركية وذلك في وقت كانت الولايات المتحدة في اوج قوتها ونفوذها. اكثر من ذلك، كان لدى الرئيس كلينتون نوع من التعاطف مع quot;ابو عمّارquot; جعله يسعى باستمرار الى وضع القضية الفلسطينية في راس الاولويات.
ما الذي جعل الفلسطينيين ينتقلون من وضع الرابح الاوّل من انعقاد مؤتمر مدريد الى وضع العاجز عن الاستفادة من الانجاز الهائل الذي تحقق في العام 1993؟
ثمة من يلقي كلّ اللوم على اتفاق اوسلو. ولكن، اذا عدنا سنوات قليلة الى خلف، نجد انه لولا اتفاق اوسلو، لما انفتحت ابواب العالم امام ياسر عرفات ولما وصل يوما الى البيت الابيض، هو الذي يعرف قبل غيره ان لا مجال لتحقيق اي تسوية من اي نوع كان من دون الدور الاميركي.
كان اتفاق اوسلو ضرورة. لكنّ ياسر عرفات لم يستوعب ان الوقت لا يعمل لمصلحته وانه كان عليه الاسراع في التوصل الى اتفاق مع اسحق رابين قبل ان يتخلص اليمين المتطرف الاسرائيلي من الرجل. هذا ما فهمه الملك الحسين، رحمه الله. استغل العاهل الاردني الراحل وجود رابين في موقع رئيس الوزراء ليغلق ملفا شائكا مع اسرائيل ويوقع معها اتفاق سلام يقطع الطريق على المطالبين بـquot;الوطن البديلquot;. في النهاية، ان اصحاب نظرية جعل الاردن quot;الوطن البديلquot; للفسطينيين هم انفسهم الذين دفعوا في اتجاه التخلص من رابين في تشرين الثاني من العام 1995.
بعد عشرين عاما من انعقاد مؤتمر مدريد، يجد الفلسطينيون نفسهم في وضع لا يحسدون عليه. صحيح انه كان على ياسر عرفات، رحمه الله، القتال على جبهات عدة، لكن الصحيح ايضا انه تخلّى بعد عودته الى فلسطين عن قدرته على ممارسة سياسة مختلفة عن تلك التي مارسها عندما كان يسيطر على ارض في لبنان او في الاردن. نسي خصوصا ان ليس في استطاعته التساهل مع اولئك الذين كانوا يدفعون في اتجاه العمليات الانتحارية.
جاءت بعد ذلك كارثة الحادي عشر من أيلول 2001 لتشكل ضربة قوية للقضية الفلسطينية. انتقل العالم من الاهتمام بالقضية الفلسطينية الى التركيز على اسامة بن لادن وما سمّي quot;الحرب على الارهابquot;. وفي السنة 2003، تلقت القضية الفلسطينية ضربة اخرى في ضوء الاجتياح الاميركي للعراق الذي ايقظ الغرائز المذهبية في المنطقة كلّها من جهة وغيّر التوازنات الاقليمية وكلّ الاولويات من جهة اخرى.
بعد عشرين عاما من مؤتمر مدريد، هناك كيانان فلسطينيان مستقلّ كل منهما عن الآخر. هناك الضفة الغربية التي لا تزال تحت الاحتلال وهناك غزة quot;المحررةquot; التي تحولت quot;امارة اسلاميةquot;.
انتقل الفلسطينيون في السنوات القليلة الماضية من الرابح الاوّل من انعقاد مؤتمر مدريد، الى اكبر الخاسرين. هل من مخرج غير انعقاد مدريد-2 في حال جاء يوم يشعر فيه الرئيس الاميركي انه على رأس القوة العظمى الوحيدة في العالم وليس تحت رحمة اللوبي الاسرائيلي؟