كتب: Jurgen Habermas
يبدو أن أنجيلا ميركل ونيكولا ساركوزي توصلا إلى تسوية معينة بين الليبرالية الاقتصادية الألمانية ومفهوم laquo;الدولانيةraquo; الفرنسي على الرغم من اختلاف نواياهما في هذا الصدد، وإذا لم أكن على خطأ، أظن أنهما يريدان توسيع الفدرالية التنفيذية لمعاهدة لشبونة وتحويلها إلى نظام حكم مباشر بين الحكومات المختلفة بقيادة المجلس الأوروبي.
تدخل المؤسسات الديمقراطية على المستوى الأوروبي مضمارا جديدا يبرز فيه مفهوم ldquo;التضامنrdquo; كعنصر أهم في هذا الإطار، فحينما يتسع المجتمع الدستوري إلى حد عبوره حدود الدولة الواحدة، فمن المفترض أن يمتد هامش التضامن بين المواطنين أنفسهم الراغبين في دعم بعضهم بعضا من أجل مواكبة مثل تلك التطورات.
ورغم أن مفهوم التضامن المجتمعي الواسع النطاق قد يكون مبهما وأقل مرونة من غيره من المقاربات، فإنه يتعين أن يشمل- حسب السيناريو الذي أقترحه هنا- الأعضاء من جميع الدول الأوروبية، وفي هذه الحالة فقط، سيتمكن مواطنو دول الاتحاد الأوروبي الذين ينتخبون البرلمان في ستراسبورغ ويراقبون عمله، من المشاركة في عملية مشتركة لصنع إرادة ديمقراطية عابرة للحدود بين الدول الأعضاء.
وفي أفضل الأحوال، سيكون بوسعنا المضي قدما في تحرير القيم، وتعزيز إرادة ضم غرباء عن الاتحاد، وإجراء التحولات المناسبة على مستوى الهويات الجمعية بالسبل القانونية والإدارية، لكن ثمة تفاعل مستمر، سواء إيجاباً أو سلباً، بين العمليات السياسية والمعايير الدستورية من جانب، وشبكات ربط المواقف والقناعات السياسية والثقافية المشتركة على الجانب الآخر. وهكذا تتلاشى الولاءات القديمة، وتتطور ولاءات جديدة، وتتغير التقاليد، ولا تعود الدول، مثل جميع المرجعيات المشابهة الأخرى، مجرد مسلمات طبيعية.
اليوم أصبحت الرغبة في تقديم التضحيات وإقامة علاقات متبادلة طويلة الأمد تعتمد بدرجة كبيرة على معيار الأعباء النسبية المرتبطة بالولاءات ومن ثم قوة ارتباط الهوية تجاه كيان اجتماعي مقارنة بآخر، ولحسن الحظ فقد انتهى عصر السخرة، وحالات الحروب التجريبية، والمطالبات بتضحية الفرد بحياته لمصلحة الأمة عموما، وهي من العوامل البالية التي كانت ترغم كثيرين على للتضحية بأنفسهم، غير أن النزعة القومية لا تزال تلقي بظلالها على الحاضر، ويرتكز اتساع نطاق التضامن المجتمعي العابر للحدود الوطنية على مدى تعلمنا للخطوات التي يمكن اتخاذها لتحفيز إدراكنا بالضرورات الاقتصادية والسياسية، وهو ما نأمل أن تقودنا إليه الأزمة الراهنة.
أدى المنطق الاقتصادي الحذق، في الوقت الراهن على الأقل، إلى إطلاق عملية تواصل واسعة عبر الحدود الوطنية، لكنها لن تتحول إلى شبكة تواصل فاعلة ونشطة إلا إذا انفتحت النطاقات الوطنية العامة على بعضها بعضا، فلا تتطلب نزعة الانفتاح العابرة للحدود وسائل إعلامية إخبارية مختلفة، لكن كل ما تحتاجه هو ممارسات مختلفة من نفس وسائل الإعلام القائمة، بحيث لا تكتفي برصد المشاكل الأوروبية والعمل على معالجتها فحسب، بل ينبغي أن تعمد في الوقت نفسه إلى نقل المواقف والنقاشات السياسية التي تثيرها المواضيع نفسها في الدول الأخرى الأعضاء في الاتحاد.
ولأن الاتحاد الأوروبي يخضع حتى هذه اللحظة لاحتكار النخب السياسية حصراً، فقد برز ذلك التفاوت الخطير في هذا الإطار، كما يظهر التباين أيضا حين نرى حجم المشاركة الديمقراطية للشعوب في ما تنجزه الحكومات لها في محافل بروكسل، واللامبالاة التي يبديها المواطنون في دول الاتحاد تجاه القرارات الصادرة عن برلمانهم في ستراسبورغhellip; لكن هذا التحليل لا يبرر اعتبار ldquo;الشعبrdquo; أو ldquo;الأمةrdquo; كيانات جامدة.
إن السخرية من نماذج الأفراد القوميين الذين ينعزلون عن الآخرين ويعيقون صنع الإرادة الديمقراطية لما وراء الحدود الوطنية، أصبحت تطبع النزعة الشعبوية لجناح اليمين السياسي. بعد نصف قرن من توافد المهاجرين بحثاً عن العمل، مازالت الشعوب الأوروبية تُعتبر كيانات متجانسة ثقافياً نظراً إلى تنامي التعددية الإثنية واللغوية والدينية في تلك المجتمعات.
فضلاً عن ذلك، ساهمت شبكة الإنترنت في تسهيل الوصول إلى جميع الجبهات، لطالما اضطلعت وسائل الإعلام، داخل الأراضي الشاسعة للدول الأوروبية المختلفة، بمهمة إنتاج وحماية الأفق المتقلب للعالم السياسي المشترك الذي يغطي مساحات واسعة وتشوبه علاقات معقدة، وكان يجب أن يكتسب ذلك الأفق جوهره عبر تدفق الأفكار التي يتم تداولها عن طريق شبكات التواصل في المجتمع المدني.
لا شك أن هذه العملية لن تترسخ بشكل آمن إلا على أسس ثقافية سياسية مشتركة حتى لو كانت متقلبة، لكن عندما تدرك الشعوب القومية، بمساعدة وسائل الإعلام، مدى التأثير العميق الذي تتركه قرارات الاتحاد الأوروبي في حياة المواطنين اليومية، سيزيد اهتمام الأفراد بالاستفادة من حقوقهم الديمقراطية كمواطنين ضمن هذا الاتحاد.
لقد أصبح هذا التأثير ملموساً خلال أزمة اليورو، فقد أُجبر المجلس الأوروبي المتردد على اتخاذ قرارات تكون لها انعكاسات متفاوتة على ميزانيات الدول الأعضاء. اعتباراً من 9 مايو 2009، تجاوز المجلس عتبة المواقف المألوفة من خلال قراراته بشأن خطط الإنقاذ واحتمال إعادة جدولة الديون ومن خلال الإعلان عن نيته إرساء التناغم في جميع مجالات التنافس المهمة (أي المجالات الاقتصادية والمالية وسوق العمل والسياسات الاجتماعية). لكن تبرز مشاكل العدالة التوزيعية في هذا الإطار لأن التقلبات في التوازن بدأت تنتقل من مدخلات الإنتاج إلى مخرجاته، تزامناً مع الانتقال من التكامل ldquo;السلبيrdquo; إلى ldquo;الإيجابيrdquo;.
بالتالي، يفترض منطق هذا التطور أن المواطنين القوميين، الذين يضطرون إلى القبول بإعادة توزيع الأعباء على طول الحدود الوطنية للدول الأعضاء، سيرغبون أيضاً بممارسة نفوذهم الديمقراطي فيما يؤدون دورهم كـrdquo;مواطنين أوروبيينrdquo; في ما يخص الموضوعات التي يتفاوض بشأنها رؤساء حكوماتهم أو يُجمعون عليها في أي مجال قانوني.
لكن بدل أن يحدث ذلك، تلجأ الحكومات إلى مناورات لتأخير الاستحقاقات المهمة ويسود شعور عام بين الشعوب يدفعها إلى رفض المشروع الأوروبي برمته. ويعزى هذا السلوك، الذي يؤدي إلى التدمير الذاتي، إلى أن النخب السياسية ووسائل الإعلام تتردد في استخلاص استنتاجات منطقية من المشروع الدستوري.
في وجه ضغوط الأسواق المالية، ساد وعي عام بأن الشرط الاقتصادي الأساسي المسبق لتنفيذ المشروع الدستوري تم إهماله عند اعتماد اليورو. يُجمع المحللون على أن الاتحاد الأوروبي يستطيع تجاوز المضاربات المالية شرط أن يكتسب الإمكانات اللازمة لإدارة الدفة السياسية تمهيداً لتوحيد التطور الاقتصادي والاجتماعي في الدول الأعضاء على المدى المتوسط، أقله في عمق أوروبا، أي بين أعضاء منطقة النقد الأوروبي مثلاً.
تدرك جميع الجهات المعنية أن هذا المستوى من ldquo;التعاون المحفَّزrdquo; هو أمر مستحيل ضمن إطار المعاهدات القائمة. وفي حال استنتج البعض أن قيام ldquo;حكومة اقتصاديةrdquo; مشتركة هو شرط ضروري في هذا المجال، فسيعني ذلك أن السياسات الأوروبية الخاصة بتعزيز القدرة التنافسية في جميع الأنظمة الاقتصادية في منطقة اليورو ستتجاوز القطاع المالي وستؤثر في الميزانيات الوطنية ككل، وسينعكس هذا الأمر بشدة على امتيازات الميزانية الخاصة بالبرلمانات الوطنية. لن يكون هذا الإصلاح الطويل الأمد ممكناً إلا من خلال نقل الكفاءات من الدول الأعضاء إلى الاتحاد، طالما لا يتم انتهاك القانون المعمول به بشكل فاضح.
يبدو أن أنجيلا ميركل ونيكولا ساركوزي توصلا إلى تسوية معينة بين الليبرالية الاقتصادية الألمانية ومفهوم ldquo;الدولانيةrdquo; الفرنسي رغم اختلاف نواياهما في هذا الصدد، وإذا لم أكن على خطأ، أظن أنهما يريدان توسيع الفدرالية التنفيذية لمعاهدة لشبونة وتحويلها إلى نظام حكم مباشر بين الحكومات بقيادة المجلس الأوروبي المختلفة.
سيسمح هذا النظام بنقل مستلزمات الأسواق إلى الميزانيات الوطنية من دون تشريع ديمقراطي مناسب، وستلجأ هذه العملية إلى التهديد بفرض العقوبات والضغوط على البرلمانات الوطنية المستضعفة بهدف تدعيم الاتفاقات غير الشفافة وغير الرسمية.
بهذه الطريقة، سيحول رؤساء الحكومة المشروع الأوروبي إلى عكس ما يعنيه، وستصبح أول ديمقراطية عابرة للدول شكلاً فاعلاً وخفياً من ممارسات الحكم في حقبة ما بعد الديمقراطية.
يقضي الحل البديل بتعديل الاتحاد الأوروبي بشكل ديمقراطي وقانوني وموثوق، فلا يمكن أن ينشأ أي تضامن مدني في أنحاء أوروبا إذا أصبحت الاختلالات الاجتماعية بين الدول الأعضاء خصائص بنيوية دائمة للمسائل الشائكة التي تفرّق بين الدول الفقيرة والغنية. يجب أن يضمن الاتحاد ما تسميه الجمهورية الألمانية الفدرالية مبدأ ldquo;توحيد مستويات المعيشةrdquo;.
يشير ldquo;توحيدrdquo; المعايير إلى مجموعة من المتغيرات في شروط الحياة الاجتماعية، وتبقى هذه المتغيرات مقبولة من وجهة نظر العدالة التوزيعية على ألا تصل إلى مستوى الاختلافات الثقافية، بل يُعتبر التكامل السياسي المدعوم من نظام الرفاهية الاجتماعية، حاجة ملحة إذا أردنا حماية التنوع الوطني والغنى الثقافي الفريد من نوعه في ldquo;أوروبا القديمةrdquo; من المصاعب التي تطبع زمن العولمة المتسارعة.
التعليقات