رضوان السيد

كنتُ أََكتب عن التوقُّعات التي يستشرفُها الجميع من وراء اجتماع الجامعة العربية بالقاهرة بشأن سوريا يوم السبت 17 ديسمبر. وكانت الأمور قد تعقدت بين النظام السوري والجامعة العربية كما هو معروف، وتحولت إلى لعبة شروط وشروط مُضادّة. وعندما انتظر الجميع أن تُصدر اللجنة الوزارية العربية قرارها النهائي الذي تُعلنُ فيه نجاح المفاوضات أو فشَلَها، وكان إعلان الفشل وزيادة العقوبات هو المُرجَّح، أصدر الأمين العام للجامعة بيانه المشهور، والذي يعلنُ فيه تأجيلَ اجتماع الجامعة وقرارها إلى يوم السبت 17 ديسمبر. ولأني كنتُ وقتَها في الخليج، فقد سألْتُ وسُئلْت، وما كان لدى أحدٍ ممن قابلتُهم تفسيرٌ شافٍ لذاك التأجيل دونما إظهار قلقٍ كبير(!). وقد عنى ذلك أنّ هناك قُطبة مخْفيّة كما يقال، وبخاصةٍ أنّ أعضاء المجلس الوطني الذين سألتُهم مُرتاعاً ما أَبْدَوا قلقاً كبيراً بل قال بعضهم لي إنّ الهيئة العامة للمجلس الوطني سوف تجتمع بتونس بين يومي 16 و18 ديسمبر، وهو اجتماعُها الأول، لتخرُجَ ببرنامجها الوطني للتغيير. أقبلْتُ على الكتابة إذن تعبيراً عن هذه الحيرة، واستشرافاً للتوقُّعات يوم السبت وما بعده؛ فإذا بالروس يتقدمون بمشروعهم حول سوريا إلى مجلس الأمن يومَ الخميس الماضي. ومما تسرب من المشروع المفاجئ لنا نحن المعلّقين على الأقلّ، أدركْتُ لماذا رحَّب به الفرنسيون بحرارة. فطوال الأيام الماضية، كان الروس والفرنسيون يتجادلون عَلَناً بشأن سوريا. يقول الفرنسيون الساخطون على مَنْع روسيا والصين للعالم الغربي من اتخاذ قرار بمجلس الأمن يُدين العنف الذي يمارسُهُ النظامُ السوري: إنّ الموقف الروسي غير أخلاقي، لأنه لا يهتمُّ للعنف الهائل الذي يمارسُهُ النظامُ على شعبه. ويقول الروس: بل إنّ الموقف الفرنسي والأميركي هو اللاأخلاقي، لأنه لا يقبلُ إدانة العنف بطريقةٍ متوازنة، أي من النظام السوري ومعارضيه! بيد أنّ الروس ظلُّوا يقولون دائماً إنهم مع المبادرة العربية، وإنّ حلَّ الأزمة يتطلب حواراً بين سائر الأطراف. والمشروع الروسي أو ما تسرَّب منه يُدينُ العنف من سائر الأطراف، لكنه يُدينُ أكثر العنف غير المتكافئ الذي يُمارسُهُ النظام على مُعارضيه. وهو يدعو إلى وقْف العنف فوراً، ومسارعة النظام إلى إجراء إصلاحات حقيقية، وإجراء حوار وطني. أمّا خريطةُ الطريق لبلوغ ذلك فيعتبرها الروس، كما قالوا دائماً، مبادرة الجامعة العربية ببنودها المعروفة. وهذا يعني أنّ الجامعة كانت على عِلْمٍ بالخطوة الروسية أو أنها تشاورت مع الروس عليها، لذلك أعْطت المُهْلَةَ، وأجَّلت الاجتماع، لكي يُقنع الروس النظام السوريَّ بقبول المبادرة العربية. ويبدو أنّ الجانب الروسيَّ ما استطاع إقناع الجانب السوري فوفى للعرب بوعده، وتقدم بمشروع القرار المذكور إلى مجلس الأمن. وقد جاء في آخِر الأخبار ليل الخميس 15 ديسمبر أنّ النظام السوري أرسل فاروق الشرع نائب الرئيس للاجتماع بوزير الخارجية الروسي.

ما الذي سوف يحصل الآن، أو بعد أن تُصبح المبادرةُ العربية -ومن ضمنها إيقاف العنف وإرسال المراقبين- قراراً دولياً؟ أول ما سيحصل فيما يبدو تأجيل اجتماع الجامعة لحين صدور القرار مطلع الأُسبوع المقبل، وحينها يكون المجلس الوطني السوري قد وضع برنامجه للتفاوُض وليس للحوار. فإذا وافق النظام السوري على المبادرة، فسيمضي المراقبون العرب إلى دمشق، ويمكن أن يكونَ معهم مراقبون دوليون هذه المرة. وإذا تمت الإجراءات الأُولى، وصار المتظاهرون يخرجون إلى الشارع بدون مواجهةٍ بالرصاص، فإنّ التفاوُض على خطوات البرنامج الإصلاحي يمكن أن يجري بالجامعة العربية، وتتشكّل حكومةُ وفاقٍ وطني لتنفيذ البرنامج الإصلاحي الذي يجري الاتفاق عليه بالجامعة.

أمّا إذا لم يوافق النظام السوري على القرار والمبادرة أو عمد إلى المماطلة وزيادة العنف، فإن مجلس الأمن سيجتمع مرةً أُخرى ويفرض عقوبات، ويتخذ قراراً بشأن حماية المدنيين السوريين عبر الملاذات الآمنة وحَظْر الطيران. وفي المدى المنظور ربما يظلُّ من غير الممكن إقرار التدخُّل العسكري لإسقاط النظام.

لماذا وافق الروس أخيراً؟ كانت للروس ولا تزال مصالح استراتيجية بسوريا، وما كان من المتوقَّع أن يتخلَّوا عنها بسهولةٍ وبدون صفقةٍ مع الولايات المتحدة. وعندما كنا نقابل دبلوماسييهم كانوا يقولون لنا: إن بينهم وبين الولايات المتحدة الكثير من مناطق الصِدام في سوريا والمنطقة والعالَم. فكما تعتبر الولايات المتحدةُ سياساتها تجاه سوريا جزءاً من استراتيجيتها الشاملة بالمنطقة والعالم، فكذلك روسيا. وكنا نقول: إن هذا الأمر غير منطقي، لأن الشعب السوري لا يستطيع الانتظار حتى تتفقوا مع الولايات المتحدة على كل القضايا العالقة، وأن لدى الدول الكبرى ذات الحق في الفيتو بالمجلس مسؤوليات تجاه الأمن الدولي، والحالة في سوريا تهدد هذا الأمن. ثم حصلت الانتخابات النيابية الروسية في 4 ديسمبر، فخرج منها الحزب الحاكم فائزاً، لكنه مُثْخن بالجراح. فأرسل الروس مبعوثاً إلى سوريا يوم 5 ديسمبر، وما أُعلن الكثير عما جرى من محادثات، إنما المفهوم أن الروس طالبوا الرئيس السوري بوقف العنف، والدخول في الإصلاحات. وأعاد الروس الاتصال مع المجموعة العربية، ويبدو أنهم اتفقوا معهم على هذا السيناريو الذي تحققت الخطوة الأُولى فيه، وستتلو ذلك بالطبع خطوات. والروسي كما حصل معه اتصال من جانب العرب، لا شكّ أنه حصلت معه اتصالات من جانب الأميركيين الذين سارعوا أيضاً للترحيب بمبادرة روسيا الجديدة. ومن الصعب الحديث عن صفقة تمت أو لم تتم، لكن توافقاً من نوع ما قد تحقق مع الأميركيين، وربما جرى فيه تجاوُز الفرنسيين الذين كانوا ولا يزالون ساخطين على الروس حتى يوم الخميس الماضي، بينما كان الأميركيون ساكتين وكأنهم غير معنيين!

لقد أظهرت الأزمة عدة أمورٍ، أولها أن العرب كانوا ولا يزالون هم الأحرَص على أمن الشعب السوري وأمانه، وعلى دور سوريا في المنطقة. وثانيها أن الروس والإيرانيين وquot;حزب اللهquot; وحكومة المالكي بالعراق، وحكومة ميقاتي بلبنان، ظلوا مع النظام السوري، وما فتَّ في عضُدهم القتل الذريع الجاري. لذلك فقد راهن هؤلاء على صمود النظام، كما راهنوا على أن الروس لن يغيروا موقفهم، ويكونون هم الذين يدفعون بالقضية إلى مجلس الأمن! وهذا يعني أنّ الدوليين -ومن ضمنهم روسيا- سوف تبدو فعاليتهم في إدارة الأزمة أكثر الآن. وثالثاً أنّ استقرار النظام السوري وبقاءه ما كان مؤسَّساً على رضا الشعب السوري عنه، بل على العلاقات الدولية والإقليمية. وها هي تلك العلاقات تتقطع أو تنقلب ضده، وقد خرج خالي الوفاض من الوظائف والتكليفات. ورابعها أن أي ترتيبات تحصُل بالمنطقة بعد رحيل النظام أو تغيره سيستفيد منها العراق ولبنان والأردن وتركيا، لأنّ وظائف النظام كانت تعني إيذاءً بسائر تلك الدول، وابتزازاً لها. وخامسها أن الإيرانيين سوف يتضررون ومعهم quot;حزب اللهquot; بالطبع، والمالكي وحكومته، وهم لن يسلموا بذلك بسهولة، وإنما بعد جهد ومماحكات ونزاعات، وكثير من الاجتماعات والنقاشات. لقد انهار النظام السوري ونحن نشهد تداعياته، وستستمر هذه التداعيات إن لم يحدث سلام بالمنطقة عطلته إسرائيل حتى الآن.

إنها نضالات الشعب السوري ودماؤه التي أنتجت هذا القَدْر من الاهتمام وتقع على عاتق المجلس الوطني الآن مهام كبرى لإعادة ترميم الخراب الذي يعيش النظام على أنقاضه، وإحداث التحول الديمقراطي من أجل وحدة الناس وحرياتهم واستقرارهم وصَون مصالحهم الوطنية والقومية.