هاشم صالح

لماذا أجهض مشروع النهضة العربية؟ هل يمكن أن ينتهي عصر الانحطاط ويبتدئ العصر الآخر؟ هل يمكن الخروج من النفق المظلم؟ هذه هي بعض الأسئلة التي كانت تعتمل في نفسي وأنا ذاهب إلى الكويت لأول مرة لحضور مؤتمر ذي اسم جميل وربما واعد بالمستقبل هو: ملتقى المثقفين العرب. وعلى الرغم من أنني متشائم بل وحتى سوداوي بالمرة إلا أني قررت التفاؤل على عكس كل التوقعات. ما سر تفاؤلي؟ الله وحده يعلم. هل أنا ذاهب إلى الحج والناس راجعة؟ أنا أول المتفاجئين بنوبة التفاؤل التي استولت علي في وقت تشهد فيه الأمة العربية أحلك لحظات حياتها وحيث لم يعد هناك متفائل واحد في الساحة تقريبا. فهل ذلك يا ترى من باب: خالف تعرف؟ لا أعتقد. ربما كان انطلاقا من المثل القائل: اشتدي أزمة تنفرجي. أو: حلكة الظلام الأكثر سوادا هي التي تسبق عادة انبلاج الفجر. ولكن البعض يعتقدون بأننا لم نصل إلى قعر الانحطاط حتى الآن. وبالتالي فحركة الهبوط إلى أسفل ستظل متواصلة لفترة أخرى لا يعلم إلا الله مداها. وحلكات الظلام لما تنته فصولا بعد. والآتي أعظم! وأنا من بين هؤلاء في الواقع. ولكن خيل إليّ مؤخرا أني لمحت بصيص نور في نهايات نفق مظلم يبدو وكأن لا نهاية له. أيا يكن من أمر، فإن الأزمة من الخطورة بحيث أن السياسيين أصبحوا يستنجدون بالمثقفين لمساعدتهم على إيجاد مخرج أو حل. وهذا شيء غريب على القادة العرب ولم يكن في عوائدهم. ضمن هذا المعنى نفهم التفكير بعقد مؤتمر قمة ثقافي عربي. فلو أن مؤتمرات القمة السياسية نجحت لما خطر على بال أحد التفكير بعقد القمة الثقافية. ولما فكر أحد في إعطاء المثقفين laquo;الثرثارينraquo; أي دور. هذا شيء مفروغ منه. نقول ذلك ونحن نعلم حجم الحساسية الموجودة عادة بين القائد السياسي والمثقفين عموما، ولكن ليس كل القادة في الواقع. ملتقى المثقفين العرب يمشي في نفس الاتجاه ويعبر عن نفس الحاجة الماسة. إنه قمة ثقافية مصغرة. إنه يبحث عن مخرج من هذا الدوران في حلقة مفرغة. نحن جميعا ضائعون نتخبط. فهل يمكن لأحد أن يجد مخرجا؟

الفكرة الأساسية التي حاولت تمريرها في مؤتمر الكويت هي التالية: كل الأمم وليس فقط الأمة العربية تعيش مراحل حيرة وضياع بل وحتى هلع في هذه الفترة أو تلك من تاريخها. كل الأمم تدخل في نوع من العتمة أو الظلمة الحالكة السواد. وعندئذ لا يكاد أحد يبصر شيئا أمامه من كثافة الضباب. عندئذ ينسد الأفق تماما ولا يعود القائد السياسي بقادر على أن يفعل شيئا يذكر. هذا هو رأي الفيلسوف الألماني هابرماس. في هذه الفترات العصيبة بالذات تبرز أهمية الثقافة والمثقفين. فعلى كاهلهم تقع مسؤولية تشخيص مرض الأمة والداء العضال. وهذا يعني أن دور المثقف يسبق دور السياسي ويمهد له الطريق. لا يمكن للتغيير السياسي أن ينجح بدون تغيير ثقافي في العمق. سبب فشل السياسة في العالم العربي ووصولها إلى الباب المسدود هو أنها غير مضاءة من قبل مشروع فكري بعيد المدى. المشكلة لم تحسم فكريا حتى الآن لكي تحسم سياسيا. وبالتالي فلا يستغربن أحد ما يحصل الآن. القصة طويلة بل وأكثر من طويلة.

لننظر إلى أوضاع الأمم الأخرى ولنتعظ بها ولنأخذ من تجاربها درسا. ينبغي العلم بأن مثقفي الأمة الفرنسية هم الذين فكوا انسدادها التاريخي في القرنين السابع عشر والثامن عشر وأضاءوا لها الطريق. وكان ذلك على يد ديكارت ومونتسكيو وفولتير وروسو والموسوعيين الخ. وقل الأمر ذاته عن مثقفي الأمة الألمانية من كانط إلى هيغل إلى شيلنغ إلى نيتشه وهيدغر وهابرماس نفسه في وقتنا الحاضر. والسياسة العظيمة المستنيرة التي شكلت الحضارة لم تجيء إلا بعد ظهور هذا الفكر. هل تعتقدون بأن القادة الألمان لا يستفيدون من آراء هابرماس ونصائحه وتحليلاته العميقة؟ وهذا يعني أن الفكر نور وهاج ينبثق من رحم الظلام ويبدد عتمات الظلام في ذات الوقت.

وفي نهاية المطاف كنت أتساءل ولا أزال: لماذا شعرت الأمة الألمانية بأن عقدتها قد انحلت وانسدادها التاريخي قد زال بعد ظهور لوثر كالزلزال في القرن السادس عشر؟ ولماذا شعرت بنفس الشيء عندما ظهر كانط بعد أن أطبقت عليها عتمة جديدة في القرن الثامن عشر؟ وهيغل في التاسع عشر؟ ولماذا شعرت الأمة الفرنسية بأنها أصبحت على السكة الصحيحة والمنهاج القويم بعد ظهور ديكارت؟ لماذا هدأ روعها واطمأنت وأصبحت واثقة من نفسها؟ ولماذا شعرت أوروبا كلها بأن نورا وهاجا قد سطع في الأفق وشق الظلمات والتراكمات بعد ظهور جان جاك روسو؟ فلماذا لم يظهر في الأمة العربية مفكر من هذه النوعية حتى الآن؟ هل أصبحت هذه الأمة عاقرا لا تنجب المفكرين العباقرة؟ وهل يمكن أن يظهر في المدى المنظور هذا الشخص؟ وهل سيقتلونه إذا ما ظهر؟ فلو أنه ظهر لكنا قد تنفسنا الصعداء على الأقل وأمسكنا بأول الخيط الذي يؤدي إلى النور، إلى المخرج والحل. هذه هي بعض التساؤلات الغريبة العجيبة التي حملتها معي إلى ملتقى المثقفين العرب في الكويت.