أحمد جميل عزم

ليس المقصود بالليبرالية هنا الحديث عن تيار أو قوة سياسية، فكل القوى السياسية المنظمة تعترف أنّها quot;لاعب ثانويquot; فيما يحدث في مصر. فما بالك بالليبراليين الذين لا يوجد لهم تيار منظم؟!. ولكن الليبرالية منظومة أفكار ومبادئ وأنماط تفاعل اجتماعي، إضافة إلى أنّها مذهب اقتصادي. وإزاء ذلك فإنّ ما يجري في مصر يحمل رسائل متناقضة.


ولعل أول من سقط في مصر هو فكرة الانفتاح الاقتصادي وتعظيم دور رجال الأعمال. فهؤلاء خرجوا من الحكومة المصرية الجديدة ومن قيادة الحزب الحاكم، وهم في مقدمة من هاجمتهم الجماهير. وقد يكون من المنصف القول إنّ هؤلاء لا يمثلون الليبرالية الحقيقية، بل الشكل المشوه منها. وما طرحوه من نظريات تحرر اقتصادي كان غطاءً لنوع من الفساد ومن التحالف مع سياسيين لا يعدو كونه شبيهاً بانحرافات جرت باسم إيديولوجيا أخرى، أو بتوظيف الدين لتغطيتها، في أماكن وأزمان مختلفة. ولكن صحيح أيضاً أنّ هؤلاء، والحكم الشعبي على تجربتهم، يؤدي إلى تعزيز مصداقية من يحذرون من اتجاهات انحراف موجودة في الليبرالية الاقتصادية ومصداقية من يتحدثون عن الليبرالية المتوحشة.

ولكن من جهة ثانية فإنّ هناك مظهرين يتماشيان مع الفكر الليبرالي في العمل السياسي. المظهر الأول يدور حول المطالب فهي تركز على حقوق الفرد، والأهم أن أدوات التحرك تعزز قدرات الفرد المستقلة. إذ جسّد الإعلام الجديد فكرة إعلام الفرد وعزز استقلاليته في التعبير عن رأيه، وفي تراجع حاجته لقيادات وأطر حزبية أو دينية لتوجيهه. ولذا فنحن أمام مرحلة تاريخية جديدة، يتراجع فيها دور الإيديولوجيات، خصوصاً الشمولية، وتزيد مجالات التفاعل والتواصل المعلوماتي المتحررة من سيطرة الحكومات وحتى الشركات الكبرى من النمط الفرداني في التفكير واتخاذ القرار.

أمّا المظهر الثاني للفكر الليبرالي الكامن في الحراك المصري فهو أنّه جامع دون تمييز لفئات الشعب المصري، فهناك المرأة المنقبة والفتاة غير المحجبة، وهناك مختلف التيارات الفكرية والسياسية، وهذه سمة أساسية في الليبرالية، حيث قبول الآخر وتعددية الأفكار والاتجاهات. وقد يكون صحيحاً أنّ كثيراً من التحركات الشعبية في الماضي كانت تتضمن دخول اتجاهات مختلفة في حراك شعبي مشترك، ولكن الحقيقة أنّه في مثل هذا الحراك لا تعمل الاتجاهات بصفتها اتجاهات، ولا يرفعون رايات حزبية، بل يدخلون الساحة بصفتهم الفردية. وإذا ما تكرّس هذا مستقبلاً من حيث قبول التعددية من قبل مختلف التيارات إزاء بعضها بعضاً فهذا اتجاه قوي نحو الليبرالية الديمقراطية.

وإذا أخذنا الليبرالية باعتبارها اتجاهاً نحو الحريات ونحو تعزيز استقلالية ودور الفرد والإيمان بالتعددية السياسية والفكرية والعقائدية فإنّ هذا يحصل فعلاً. وبالنسبة للاقتصاد، فإنّ حقيقة أنّ الحراك يرفع شعارات مثل الحد الأدنى من الأجور، والعدالة الاجتماعية، قد تدفع البعض ليراها أفكاراً أقرب للاشتراكية، ولكن هذا في حقيقته دعم لفكرة الليبرالية الاجتماعية، على غرار النموذج الأوروبي، خصوصاً في الستينيات والسبعينيات، وليس النموذج الأميركي المنفلت.

لا أحد يدّعي أبوة الثورة المصرية، بما في ذلك الليبرالية، ولكن هذا لا يمنع من أنّ الاتجاه العام يسعد الليبراليين.