سركيس نعوم

أثار خوف بنيامين نتنياهو من الأثر السلبي الذي لا بد ان يرتِّبه خروج الرئيس المصري حسني مبارك من السلطة جراء الثورة الشعبية عليه، اولاً، على معاهدة السلام الاسرائيلية ndash; المصرية، وثانياً، على الاستقرار في المنطقة، اثار سخرية عدد من الباحثين اليهود الاميركيين الكبار، وتحديداً الذين منهم اتصفوا بالواقعية والاعتدال، والذين سعوا لاقناع الاسرائيليين على تنوعهم والفلسطينيين على تنوعهم، كما دول عربية عدة، بالعمل الجاد لاقامة دولة فلسطينية تعيش بأمان وسيادة واستقلال الى جانب دولة اسرائيل. فهؤلاء يلمسون تحوّلاً متصاعداً للشرق الاوسط العربي، ويشعرون ان العودة عنه لم تعد ممكنة، ويعرفون ان تأثيراته على المصالح الحيوية والاستراتيجية الاميركية في الشرق الاوسط، كما على عملية السلام بين الفلسطينيين واسرائيل، ستكون كبيرة الى درجة ان احداً لا يستطيع منذ الآن تقدير حجمها ومداها وابعادها وأشكالها. وهؤلاء يوافقون اسرائيل عندما تشعر بالخوف من مساهمة ما يجري في مصر واستطراداً في المنطقة في تعاظم نفوذ quot;الاخوان المسلمينquot; المصريين، وفي استعادة حركة quot;حماسquot; الفلسطينية زخمها المقاوم الذي ضعف كثيراً بعد سيطرتها على غزة واضطرارها الى quot;مهادنةquot; اسرائيل خوفاً من عملية عسكرية ثانية ضدها في امارتها الغزاوية. كما يوافقونها عندما تعبِّر عن اعتقادها ان ثورة مصر وتداعياتها قد تقضي على الامل، وإن ضعيفاً، في إحياء مسيرة السلام على المسار الفلسطيني ndash; الاسرائيلي. لكن الباحثين اليهود الاميركيين يعرفون في الوقت نفسه ان الخوف الاسرائيلي من الانعكاسات السلبية لثورة مصر على السلام مع الفلسطينيين ليس في محله. ذلك ان نتنياهو وحكومته مقتنعان بأنهما تفوّقا على رئيس اميركا باراك اوباما في مواجهتهما له اثناء مطالبته اياهما بالاستمرار في تجميد الاستيطان في الضفة الغربية تسهيلاً للتسوية. فضلاً عن انهما مقتنعان ايضاً بأن في إمكانهما الآن الاستمرار في quot;إلتهامquot; الضفة الغربية من دون ان يخشيا اي عقاب من احد، وفي الوقت نفسه الاستمرار في تجاهل المصالح الاميركية، ومعها القانون الدولي وكل اتفاقات وقف الاستيطان التي وقعتها اسرائيل في السابق والتي تضمنت ايضاً تعهداً بازالة المستوطنات العشوائية. انطلاقاً من ذلك يعتقد الباحثون اليهود الاميركيون انفسهم ان الهدف الفعلي لاسرائيل الاستعمارية هو تأسيس نفوذ دائم غير قابل للنقض او للضرب في كل فلسطين من خلال المستوطنات. وهذا امر كان واضحاً منذ البداية، لكن الكثيرين تعمَّدوا عدم رؤيته.
ما هي الاسباب التي جعلت اسرائيل، وخصوصاً منذ احتلالها الضفة الغربية وغزة قبل 44 عاماً، تستخف بالغضب العربي الشعبي والغضب العربي الرسمي اللذين تم التعبير عنهما بحرب رسمية شبه ناجحة عام 1973، وبمقاومة فلسطينية واخرى لبنانية نجحت في انهاء اسرائيل احتلالها اجزاء من لبنان عامي 1978 و1982؟
الاسباب كثيرة يجيب الباحثون اليهود الاميركيون الكبار انفسهم. إلا ان ابرزها كان اقتناع اسرائيل بأن الانظمة العربية الشمولية المتسلِّطة المعتمدة ومن زمان على حماية اميركا لها ستبقى ناجحة في ضبط غضب شعوبها على اسرائيل والغرب. وهذا الاعتماد القريب من الاذعان كان له الفضل الاول في استقرار السلام الذي وقّعته مصر والاردن مع اسرائيل. كما كان له الفضل في ولادة ما سمي مبادرة السلام العربية عام 2002 في بيروت، التي تعهَّد فيها الملوك والرؤساء العرب الاعتراف باسرائيل والتطبيع الكامل معها اذا توصلت والفلسطينيين الى تسوية دائمة وشاملة. الا ان صدقية اميركا التي طالما افادت عرب الانظمة واسرائيلييها بدأت في الاهتراء والتآكل قبل الانتفاضات الشعبية التي بدأت في العالم العربي. واسباب ذلك كثيرة آخرها تراجع اوباما امام نتنياهو. علماً ان النيَّة التي كانت ربما متوافرة عند عدد من الانظمة العربية المهمة للتعاون مع الحليفة والحامية اميركا ومع اسرائيل لمواجهة ايران الاسلامية المتعاظمة قوتها في الشرق الاوسط، قد تضعف بعد سقوط مبارك وبسببه. وعلى العكس من ذلك فان النفوذ الايراني سيزداد ويقوى في حال كهذه، فضلاً عن ان عداء الانظمة العربية لايران قد لا تشاركها اياه شعوبها او بعضها. والسبب الاساسي لذلك هو تصدي ايران لاسرائيل بنجاح وقيادتها المواجهة ضدها. وهذه مهمة كانت للعرب اساساً وتخلُّوا عنها.
في اي حال يعتقد الباحثون اليهود الاميركيون اياهم ان التغييرات الثورية العربية الجارية قد تشكل خطراً وجودياً على اسرائيل. إلا ان ذلك يتوقف في الدرجة الاولى على طريقة تعاطيها معها. ومع نتنياهو في الحكم لا يبدو ان هذه الطريقة قد تجنِّب اسرائيل الاخطار. ذلك انه وحكومته اثبتا quot;بحكمتهماquot; ان الصهيونيين قد يكونون عنصريين، علماً ان الصهيونية اساساً ليست عنصرية (في نظر اليهود والاميركيين). وقد تجلت هذه الحكمة في الوقوف عملياً ضد اقامة الدولة الفلسطينية وفي اقامة دولة تمييز او فصل عنصري في كل فلسطين مماثلة لدولة جنوب افريقيا سابقا. طبعاً يعرف هؤلاء ان سلام مصر واسرائيل الغى او اضعف كثيراً خيار حرب عربية نظامية ضد اسرائيل. لكنهم يعرفون في الوقت نفسه ان تغيراً جذرياً لمصر قد يعرِّض وضعها ومركزها الاستراتيجيين للخطر. كما انه قد يعرِّض سلام اسرائيل والاردن للخطر بل للزوال اذا الغت quot;مصر الجديدةquot; سلامها معها. فهل quot;مصر الجديدةquot; في هذا الوارد؟ وقبل ذلك هل ستقوم quot;مصر الجديدةquot;؟ وهل ستكون جديدة في الداخل اي نامية بثبات وقوة وديموقراطية جدية ومُحارِبة للفساد؟ ام جديدة مع الخارج فقط اي مع اسرائيل واميركا؟ ام في الداخل ومع الخارج في آن واحد؟
لا اجوبة عن ذلك حتى الآن. فمخاض التغيير لا يزال مستمراً. والولادة لم تحصل بعد.