راجح الخوري

أقفل اجتماع دار الفتوى بوابات خطرة كانت قوى 8 آذار منكبة منذ مدة على فتحها، لضخ رياح الانقسام الجذري وترسيخها بين قيادات الطائفة السنية، ودفعها تاليا الى الغرق في مستنقع الخلافات والتشظي الذي تتخبط فيه احوال الطائفة المسيحية، بحيث يسهل على من يملك قبضة جامعة ومتماسكة، كما هي حال الطائفة الشيعية، دفع الرياح اللبنانية في الاتجاه الذي يريد.
بدا هذا واضحا امام المراقبين، وخصوصا بعدما وصل الامر الى حد اسقاط الحكومات وآخرها حكومة سعد الحريري بعد شلّها وتعطيلها، وبعد ممارسة الضغوط المستندة الى القوة لقلب موازين الاكثرية النيابية، بما يعني ضمنا نسف الشرعية الانتخابية الشعبية وعزل ارادة اللبنانيين.
ثم جاء الاقصاء المعلن والصريح للحريري من رئاسة الحكومة. وبعد ذلك جاء قرار تسمية نجيب ميقاتي، بعد إلقاء اسم عمر كرامي جانبا(!) وليس سرا انه تم انزال غلالة الديموقراطية الواهية فوق كل التطور الذي تسميه قوى 14 آذار انقلابا ظاهره دستوري وباطنه إكراهي.


❑❑❑

من الضروري التذكير بكل هذا، لفهم المعنى السياسي الذي يمثله اجتماع دار الفتوى، الذي حضره الرئيس المكلف نجيب ميقاتي، ووافق على كل سطر من البيان الصادر عنه، والذي يتجاوز كونه بيانا الى ان يكون وثيقة تشخّص الماضي السياسي القريب وما اعتوره من مشاكل تشكو منها الطائفة السنية او بالاحرى تتعرض لها، كما انها تضع سلسلة من المسلمات والثوابت التي تتمسك بها على المستوى الوطني، وفي جوهر العلاقات والاسس التي يقوم عليها العيش المشترك في لبنان.
واذا كان ميقاتي قد حرص بعد الاجتماع على القول: quot;بدأنا مسيرة لمّ الشمل اللبناني بدءا من الطائفة السنية، وصولا الى كل الطوائفquot;، فانه كان من الضروري والمهم تأكيد وحدة موقف السنة في لبنان امام لفح رياح الشرذمة.
اما الحديث عن quot;لمّ الشملquot; فإنه يذكّر الجميع بمن فيهم الرئيس المكلف، بان سعد الحريري كان قد انطلق في تشكيل حكومته التي اسقطت بالثلث المعطل وquot;حصان طروادةquot;، وهو يرفع شعار quot;لم الشملquot;: حكومة تلم شمل الجميع تحت شعار الوحدة الوطنية والعمل...
وكان ما كان.


❑❑❑

في اي حال ان نجيب ميقاتي رجل دمث، ذكي، هادئ ومبتسم وقد كان يعرف سلفا ان حضوره اجتماع دار الفتوى سيكسبه ثلاثة امور:
❑ اولا: اخذ شرعية الاجماع السني من ينابيعها لا من قوله مثلا: quot;انا السني الاولquot;، وهذا امر ضروري وحيوي له ولكل رئيس حكومة في لبنان.
❑ ثانيا: اذا كان تجمع 8 آذار قد سُرّ قلبه وكاد ان يغرق في التصفيق، بعدما لبس مرشحهم عباءة الشرعية السنية، فان في حسابات ميقاتي الضمنية بلا ريب، وهذا رجل يجيد الحساب، انه بعد حصوله على الاجماع السني صار مضطرا، اكثر من ذي قبل، الى الالتزام بالحدود والنقاط التي اوردتها الوثيقة الصادرة عن الاجتماع في المسائل المتصلة بقواعد العلاقات الدستورية بين اللبنانيين وخصوصا بقضية المحكمة الدولية، التي تشكل محورا اساسيا في الصراع الدائر منذ اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
❑ ثالثا: عندما يوقع ميقاتي على وثيقة دار الفتوى ويذهب مع سعد الحريري في سيارة واحدة الى quot;بيت الوسطquot; فمعنى ذلك ليس ان السياسة لا تفسد في الود قضية فحسب، بل انه يلتزم ضمنا بما ورد في الوثيقة الصادرة في ما يختص بآل الحريري والمحكمة الدولية، وهو الامر الذي كان قد ادى الى ان سعد الحريري quot;استُقيلquot; من رئاسة الحكومة!
ثم ان هذا يثبت عمليا، ان سعد الحريري لم يكن مهتما بالسرايا والكرسي، بمقدار اهتمامه بالدور الذي تلعبه رئاسة الحكومة في ترجمة الثوابت والبنود التي وردت في وثيقة دار الفتوى.


❑❑❑

طبعا لقد ذهبت التحليلات بعيدا امس في الحديث عن انعكاس الاجتماع السني وما صدر عنه على موضوع تشكيل الحكومة وشكلها وموعد ولادتها، عندما تتوافر الحلول المعقولة والمنطقية، التي يمكن ان تساعد ميقاتي في معالجة النهم الاستيزاري عند الكثيرين وفي مقدمهم quot;التيار الوطني الحرquot; الذي يريد ان يأكل حصة الاسد في التشكيلة العتيدة، فلا مكان لـquot;ايتام 14 آذارquot;، وليس بالضرورة ان يطلب سليمان فرنجيه اكثر من لحس اصبعه، اما الرئيس ميشال سليمان فليضع في حسابه رحيلا مبكرا من بعبدا المشتاقة لان تعود quot;بيت الشعبquot;!!
هذه امور ليست خافية على ميقاتي، وهو quot;نجيبquot; واكثر، ولهذا لا ريب في انه يقول في سره الآن:
اللهم أعنّي على من أيّدوني، اما الذين عارضوني فأنا الكفيل بهم!
ولكن كيف يا دولة الرئيس الصديق ميقاتي، وانت تدرك تماما ان اجتماع quot;دار الفتوىquot; رسم quot;خريطة طريقquot; وافقت عليها رئيسا سنيا للحكومة، وهو ما قد يضعك في المكان الذي انتهى اليه سعد الحريري، وتحديدا في مسألة المحكمة الدولية، التي ليس مفهوما قط حديثك عن إجماع محلي وعربي عليها، يُراد له ان يؤدي الى إلغائها كما يعلن الذين دعموك رئيسا؟!