سعيد حارب
أستعير عنوان المقال من عنوان كتاب متميز للصديق نواف القديمي، فالعرب يعيشون هذه الأيام ما يمكن وصفه بتنسم أشواق الحرية التي طال انتظارها عند العرب، وعبر عنها ذلك الكهل التونسي وهو يخاطب شباب تونس بقوله: لقد هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية، والهرم يصيب الشعوب كما يصيب الأفراد، لكن الشعوب قادرة على استعادة شبابها من خلال عمليات التجديد التي تمر بها بين مرحلة وأخرى، وتلك سمة الشعوب الحية، وقد تميزت الشعوب الغربية بقدرتها على التجديد من خلال عمليات المراجعة والإصلاح على المستويات المختلفة، لكنها أيقنت أن أي عملية تجديد لن يكتب لها النجاح إذا لم تكن منضبطة بالمشروعية القانونية، فقننت ذلك من خلال دساتيرها باعتبارها العقد الرابط بين مختلف مكونات المجتمع، ولذا فإن هذه laquo;الديناميكيةraquo; في المجتمعات الغربية هي التي تجدد فيه ما فسد من laquo;خلاياهraquo; بين فترة وأخرى، وقد تعلمت هذا الدرس شعوب أخرى في آسيا وأميركا الجنوبية فاستطاعت أن تجدد دماءها وتمضي في مسيرتها، ورغم أن الشرقيين -بصفة عامة- كثيرا ما laquo;يلعنونraquo; المجتمعات الغربية ويبحثون عن نقائصها، فإنهم لم يستطيعوا أن يجدوا آلية أخرى لتجديد الحياة في شعوبهم، ودخلت هذه الشعوب في حالة laquo;احتقانraquo; لم تنفع معه كل وسائل التخفيف، حتى جاءت التكنولوجيا العابرة للحواجز، فوضعت الأجيال العربية أمام صفحة العالم، ووجد الشباب العربي أن محاولات laquo;الخصخصةraquo; للقيم والمبادئ والأفكار لا يمكن أن تنجح ضمن قوالب جامدة من التفكير، وأدوات قديمة في التنفيذ، فذهب يبحث عن laquo;المفتاح السحريraquo; لكل عمليات التجديد الناجحة فلم يجد غير laquo;مفتاح الحريةraquo; مدخلا لبوابة التقدم، لذا فإن الذين خرجوا في شوارع المدن التونسية والمصرية والعربية لم يكونوا يبحثون عن laquo;طلاسمraquo; يعمل المنظرون على فكها وتحليلها، بل عن شيء اسمه laquo;الحريةraquo; ومن هنا يمكننا فهم ما حدث في تونس ومصر، فالأمر لا يتوقف عند تغيير رئيس أو نظام، فتلك مسألة تحدث في كل أرجاء الدنيا، لكن الأمر أبعد من ذلك، فالشعوب العربية وعت أن من حقها أن تعيش في مجتمعات مدنية لا يُفصل بين أبنائها بسبب العرق أو الدين أو المذهب أو اللون أو الجغرافيا، بل إن الحرية هي التي تعزز ذلك ما دام الإنسان حراً في اختيار لا يحكمه إلا خوفه من الله ثم ضميره، كما وعت أن من حقها أن تسوس شأنها بنفسها من خلال مؤسسات تختارها من بين أبنائها الذين ترتضيهم، حتى يكون أمرها بيد laquo;خيارهاraquo; كما تدعو في كل صلاة. إن الأيام القليلة الماضية بينت أن العرب يعيشون حالة تحول واكتشاف لذاتهم التي غابت عنهم سنوات طويلة، وما حدث هو استرجاع لهذه الذات، أو عودة للوعي، فمنذ سنين والعرب يمارسون دور laquo;الفرجةraquo; على ما يدور حولهم، ولم يتجرأ أحدهم ليعلق جرس التغيير، ورغم كل التحولات التي كانت تدور حولهم فإنهم بقوا laquo;مستعصينraquo; على التغيير، بل إن القابلية للتغيير كانت تقترن بالفوضى في مخيلة الإنسان العربي، لا فرق بين نظام ومواطن، لكنهم اكتشفوا أخيراً أن الحرية هي النظام، ولا بديل عن الحرية سوى الفوضى أو الدكتاتورية، إذ لا يستقيم شأن الحياة بالفوضى، ولا تتقدم بالدكتاتورية، لذا فإن الذين كانوا يهتفون في شوارع تونس ومصر ضد النظام، كانوا يهتفون في الوقت نفسه ضد الفوضى والدكتاتورية، وإذا كان laquo;التوانسةraquo; و laquo;المصاروةraquo; يهتفون للحرية فإنهم كانوا يهتفون للعدالة معها، إذ لا تكتمل الحرية إلا بالعدالة، فهي التي تصونها من الزيغ أو الزلل لتكون عدالة تساوي بين الناس في ميزانها، حتى لا يكون laquo;إذا سرق فيكم الشريف تركتموه، وإذا سرق فيكم الضعيف أقمتم عليه الحدraquo;. فتحت ظل القانون يتساوى الجميع، و laquo;العدل أساس الملكraquo; ليست عبارات ترتفع على بوابات المحاكم وفوق رؤوس القضاة، بل هي ممارسة عملية في كل زوايا المجتمعات حتى تسد منافذ الفوضى والاضطرابات. إن العدل قرين الأمن، فإذا وجدت مجتمعا آمنا، فاعلم أن العدل يسوسه، أما إذا غاب العدل فاعلم أن الأمن زائل، ولو بدا لك غير ذلك، والعدالة هي ضمان الحرية، فالحرية المطلقة مفسدة مطلقة، هكذا يقول علماء التشريع والقانون، فما الذي يضبط الحرية من أن تتحول إلى مفسدة؟ إنها العدالة القائمة على قوانين وأنظمة عادلة، لكن العدالة -ذاتها- تتحول إلى مفسدة عظمى إذا كانت قائمة على قوانين غير laquo;عادلةraquo;، وقديما قال المسيح عليه السلام: laquo;إذا فسد الملح، فبماذا يملحraquo;!!
لقد خرجت الملايين في تونس ومصر، تلبي نداء الحرية، وتجاوبت معها أصداء العرب في كل مكان، فالحرية ليس لها وطن ولا نسب، لذا قد يصبح من اللغو أن نسأل: عن أي البلدان العربية التي يمكن أن يتكرر فيها laquo;السيناريوraquo; التونسي أو المصري، إذ إن السؤال الذي يمكن أن نطرحه: أي المجتمعات تغيب عنه الحرية والعدالة، ثم نستنتج بعد ذلك الإجابة!!
التعليقات