عبد الوهاب بدرخان

تذكّر الغربيون سقوط جدار برلين والفرح الذي اختلط فيه الشرق بالغرب عام 1989. تذكّر بعضهم أن في نزعة المصريين إلى القول إنهم quot;تحررواquot; شيئاً من غداة quot;انتهاء الاستعمارquot;. قليلون دخلوا في عمق الثورة الشبابية، بالجبروت الجارف والتواضع الجمّ اللذين ميَّزاها.

في اليوم التالي لسقوط النظام بدت الآمال والطموحات في أعلى الأعالي، ويحق لها أن تبقى محلقة، فالأمم الكبرى خليق بها أن تفكر كبيراً. وفي لحظات الفرح العارم راحت الشاشات تمرر شخصيات من جيل أراد أن يقول إن دوره انتهى، ولا مرارة في ذلك، فهو حلم بأن يغيّر، وحاول، لكن الجيل الجديد هو الذي صنع التغيير، وله إذن أن يصنع الغد، طالما أنه يبني مستقبله. هذا جيل يحق له أن يقول طالما أننا فعلنا، إذن فإننا نستطيع أن نفعل أكثر، فما ظنناه صعباً تجاوزناه بإصرارنا، أما الأصعب فهو ما بدأ الآن.


على رغم اللهجة الجافة التقليدية للبيانات العسكرية، إلا أن بيان اليوم الثاني استخلص عناوين دروس الأمس ومهمات اليوم واستحقاقات الغد. مجرد عناوين لكنها إعلان نيات والتزام. قال إن الجيش في مصر يجدد تأكيد تعهداته العمل في إطار ما طرحه quot;الثوارquot; الذين قدموا تجربة عمل شعبي ليس لمصر وحدها وإنما للعالم. كان أوباما لامس هذا الاستنتاج حين قرأ الحدث بملامحه المعولمة. ثمة رسالة بالغة الفرادة انبثقت من تونس، وبالأخص من مصر، مفادها أن اللاعنف الشعبي سجل أول انتصاراته على العنف quot;الشرعيquot; الذي تحتكره الدولة وتستخدمه ضد شعبها.

الأكثر إلحاحاً، قال الجيش، هو الذهاب إلى العمل، فهذا عنصر جوهري لبدء ورشة الانتقال إلى العهد التالي. فالبلد دفع ثمن ثورته من اقتصاده، ولكن الشهور الآتية كفيلة بتعويضه كل الخسائر. الأمر الآخر، أن الانتقال يجب أن يكون سلميّاً وصولاً إلى quot;نظام ديمقراطي حرquot; وquot;سلطة مدنية منتخبةquot;. نعم تحدث البيان العسكري بوضوح عن سلطة quot;مدنيةquot;، معلناً زوال أحد quot;ثوابتquot; النظام المستنسخ منذ ثورة 23 يوليو 1952 بأن يكون quot;الريسquot; من الجيش. هذا المفهوم العصري، الذي بات التزاماً مسجلاً، لن يعني في الممارسة فقط إنهاء احتكار الجيش للرئاسة، ولن يعني فقط أنه لابد أن يكون منتخباً، بل إنه سينسحب استطراداً على التغلغل التلقائي لـquot;اللواءاتquot; هنا وهناك في مختلف المناصب المدنية، بما فيها تلك البزنسية- الأمنية. ولعل هذا يبرهن أن التحولات التي مرّ بها الجيش هيأته لردود فعل كثيرة لم تكن متصورة، ومنها خصوصاً تعايشه السلس مع ثورة الشباب وإقباله بلا أي تعقيد على مستقبل يرضى فيه بأن يكون في ثكنه حاميّاً للنظام المدني. لابد أن يعني ذلك أيضاً نهاية لنمط quot;الحزب الحاكمquot; بالشكل والمضمون والدور والنفوذ التي عرف بها طوال المرحلة الماضية. وعندما يتمكن الجيش من تطهير مثل هذا النموذج فإنه يكون مساهماً في انبثاق سلطة بثقافة مختلفة لابد أن تنسحب أيضاً على القوى الأمنية الأخرى التي أخرجتها الثورة من المعادلة ولا يزال يلزمها وقت لتسجل عودة متكاملة إلى مهماتها.

وهكذا يسجل للجيش أيضاً أنه ساهم ميدانيّاً في اندثار دولة أدوات القمع، دولة الهراوات وقنابل الغاز والرصاص المطاط وآليات المطاردة. لا عودة لهذه الدولة، لكن الجيش نفسه يعلم أن الشارع يمكن أن يعود في أي لحظة، فالشباب خبروا كل المزايا quot;الاستراتيجيةquot; لميدان التحرير وأصبحوا يعرفون الطريق إليه، ويأملون بألا يضطروا للعودة إليه.

طبعاً كان لابد من إعلان استمرار التزام المعاهدات الدولية. لا عجب في ذلك، وهل هي تقتصر على quot;معاهدة السلامquot; مع إسرائيل، وهل باتت السياسة الخارجية لمصر تقاس بهذا السلام فحسب من دون أي اعتبار لدورها الطبيعي في الإقليم العربي المترامي الأطراف. الأميركيون والإسرائيليون، الذين أبدوا مخاوف على هذا السلام، لابد أن يدركوا أنهم كانوا ولا يزالون الخطر الأكبر عليه، على رغم المعاهدة مع مصر.