نورالدين قلالة

لم أكن أود الكتابة في هذا الموضوع، خاصة في هذا الوقت بالذات، ولذة الفرحة ما زالت تغمرني مثلما تغمر كل بيت من بيوت مصر الكنانة، بل كل بيت عربي، لكنني بصراحة ما قرأته وما شاهدته وما سمعته في الأيام الأخيرة يدفعني إلى القول للإخوة في قاهرة المعز: laquo;أيها المصريون.. أرجوكم.. احفظوا حق تونسraquo;.
لقد تمادى الكثيرون -للأسف- في التطبيل والتزمير لثورة مصر كما لو كانت فريدة عصرها ووحيدة زمانها، وصار البعض يشبهها بثورات غيّرت وجه العالم كالثورة الفرنسية والثورة البلشفية، دون مجرد الإشارة إلى ثورة تونس التي كانت النموذج والمثال حين امتلكت روح المبادرة وأمسكت بزمام الرغبة في التغيير.
لا أحد يمكنه أن يشكك اليوم في ثورة الأبطال في ميدان التحرير، لا أحد يستطيع أن ينكر أن ما قام به الشعب المصري كان طفرة اجتماعية وسياسية، لكنها لم تكن مفاجئة لأحد ولا فريدة ولا خاصة، وهي ليست laquo;صناعة مصرية مية بالميةraquo;.
صحيح أن ما فعله المصريون سيذكره التاريخ في كل الأزمان والعصور، صحيح أن ثورة مصر بزخمها الشعبي الكبير وإصرار أهلها على رحيل مبارك تماما مثلما أصر التونسيون على رحيل بن علي.. كانت طفرة عظيمة لشعب عظيم، لكن لا يجب تحت أية ظروف ووفق أيه مسارات أن ينسى المصريون أن ثورتهم مستوحاة بالكامل من ثورة تونس. التلميذ النجيب لا يمكنه أن ينسى فضل أستاذه مهما بلغ من مراتب في التقدم العلمي ومهما حصل على شهادات..
لست تونسيا ولا أقصد أن يتم الإشارة لتونس في كل مقال أو تصريح أو مظهر من مظاهر الإشادة بثورة مصر، لكن عندما تطرح المقارنات غير المتكافئة بين ما حدث في مصر وما حدث في فرنسا وفي الاتحاد السوفييتي، أعتقد أنه من حق تونس على مصر أن يقال إن ثورة تونس كانت ملهمة الثورة في مصر بطريقتها ومنهجها وشبابها وظروفها وخطاباتها و laquo;فيسبوكهاraquo; وحتى شعاراتها التي أخذها المصريون كما هي بلكنتها التونسية.
بصراحة، غير مقبول أن يتم السطو على أفكار الآخرين وإبداعاتهم.. إذ يبدو لي أن عقلية laquo;التكويشraquo; على كل شيء ما زالت متفشية في العديد من الأوساط المصرية المثقفة والعالمة بشؤون السياسة والتاريخ..
في برنامج الأستاذ أحمد منصور مع بعض الشباب من ثوار ميدان التحرير.. جرى الحديث عن ضرورة تدريس ثورة مصر وكأنها من صنع المصريين.. كيف تدرس ثورة منقولة صورة طبق الأصل من ثورة أخرى وعلى الكتالوج.. لكن الأستاذ عبدالحليم قنديل في laquo;الاتجاه المعاكسraquo; أوشك على القول إن ثورة تونس مستوحاة من ثورة مصر!!
أسامة الغزالي حرب قال إن الثورة المصرية laquo;ثورة فائقة، ولا بد أن توضع ضمن الثورات العالمية مثل الثورة الفرنسية والأميركية، ولا بد أن نفخر بها كمصريينraquo;، لكنه لم يتطرق لا من قريب ولا من بعيد إلى تونس، ورماد laquo;البوعزيزيraquo; ما زال يملأ الأجواء.
أما الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل فرفض مقارنة الثورة المصرية بالثورة التونسية أو الثورة الفرنسية، قائلا: laquo;كل ثورة تعبر عن حالة، فكل ثورة تختلف باختلاف الثقافة السائدة وحجم الطموح والمشاركة بهاraquo;، مشيراً إلى أن الثورة المصرية أول ثورة توظف بها التكنولوجيا، واصفا إياها بأنها laquo;ثورة عصرهاraquo;.. سبحان الله!! وكأن التوانسة لم يستخدموا التكنولوجيا والفيس بوك في ثورتهم! وقد عبّر بن علي نفسه عن ذلك صراحة حينما قال لهم في خطابه الثاني، إنه سيرفع الحُجُب عن الإنترنت..
وسار كتّاب مصريون آخرون على نفس المنوال.. محمد مورو (كاتب مصري) أكد منذ مطلع مقاله في موقع laquo;الإسلام اليومraquo;، أن الثورة المصرية laquo;فريدة، فريدة في كل شيء، في أسبابها وتداعياتها ونتائجهاraquo;، ثم قال laquo;إنها أعظم من كل الثورات الفرنسية والبلشفية والإيرانيةraquo;، واستكثر على الثورة التونسية أن يذكرها حتى في سياق تفضيل الثورة المصرية عليها! كأنه يريد حذف الثورة التونسية من التاريخ أصلاً!!
وهذا الكاتب الفلسطيني ماجد كيالي في جريدة الحياة، يدبج مقالا في مديح الثورة والتأكيد على أنها laquo;مفاجئة وغير مسبوقة، ولم تأت بالطرق المعهودة، كتلك التي عرفها عديد ثورات العالم، من الثورة الفرنسية إلى الثورة البلشفية، وأنها اختطت طريقها الخاص، والمغايرraquo;، وحينما ذكر الكاتب تونس على استحياء -بجملة اعتراضية في نهاية المقال- كان واضحاً أنه أقحمها إقحاما بعد أن تذكر أنه ينبغي عليه أن يتحلى ببعض الموضوعية، لكن بنهاية المقال كان الوقت قد فات، فقد كان إدخالها في النهاية متناقضا تماما مع كل كلامه، وبدت كالهرة السوداء على الثلج الأبيض!!
وهذا الدكتور أحمد زويل، الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء، يقول بأن الثورة المصرية laquo;ثورة عالمية ومتحضرة وعلميةraquo;، وهي كذلك دون أدنى شك، وتحدث laquo;زويلraquo; عن ثورة يوليو، وهي ثورة عظيمة هي الأخرى باعتراف العالم.. وتحدث مطولا عن مقارنات وشخصيات وطنية، لكنه أيضا لم يذكر أبداً تونس على الأقل كمثال.
تونس لم تسلم أبداً من الظلم الذي يلحق بها يوميا في وسائل الإعلام، فهذا الزعيم الكبير عادل إمام يقول laquo;إن الثورة فاجأت العالم كله وستُحدث انقلابا في الشرق الأوسط بأكمله، لأنها ثورة جديدة في كل شيء، سواء في أفرادها أو في طلباتهاraquo;.. أليست غريبة هذه التصريحات من فنان كبير كعادل إمام يفترض به أن يكون متابعا للأحداث.
حتى الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودي المعروف بمواقفه القومية والموضوعية يقول laquo;إن هذه الثورة هي امتداد لثورة 1919raquo;، وليس لثورة تونس التي هي أول ثورة شعبية تطرد زعيما عربيا شر طردة.
كنت أرغب من إخواننا في مصر أن تكون ثورتهم العظيمة قطيعة معرفية مع التاريخ بداية من 25 يناير 2011، قطيعة مع كل الأفكار المصرية البالية التي رسختها الأنظمة السابقة.. لكن يبدو لي أن هذا صعب تقبله على عقلية المركز المصرية، لست ضد النظرية في الأصل لكنني ضد تسويقها بهذه الطريقة.
ثورة مصر صارت على laquo;الكتالوجraquo; التونسي، باعتراف شباب الثورة أنفسهم في بدايتها، وباعتراف المتظاهرين الذين كانوا يرددون laquo;إحنا رجالة زي التوانسةraquo; و laquo;الشعب يريد إسقاط النظامraquo;.. laquo;يا مبارك يا مبارك السعودية في انتظاركraquo;.
لا يمر يوم إلا ونسمع عن مخاوف في مصر من سرقة الثورة من شبابها وأبطالها الحقيقيين الذين غيروا تاريخ مصر.. فإذا كان المصريون يخافون من سرقة مجهودهم فليس من حقهم أن يسرقوا جهود غيرهم، خاصة أن فضل هؤلاء على ما حدث في مصر لا ينكره إلا جاحد، آسف يا جماعة.. حقوق الثورة محفوظة لتونس، ماركة مسجلة، مثلها مثل البيبسي والكوكا كولا.. يمكن تقليدها في الطعم والشكل والمسار، أما الفكرة فما زالت سراً من أسرار البوعزيزي، ولا أحد بإمكانه السطو على أفكار الغير لينسبها لنفسه كما لو كانت إبداعا لم يعرف التاريخ قبله ولا بعده.. وبين الثورتين أيام معدودة.. فماذا لو كانت سنوات طويلة؟
قليلون جدا الذين كانوا يحافظون على حق تونس في مبادرة الثورة، وكانوا يسجلون اسمها في كل مرة ضمن حقوق تأليف الثورة. المفكر العربي الدكتور عزمي بشارة أحد هؤلاء حيث يقول laquo;إن ثورة تونس المجيدة كانت هي السبابة التي ضغطت على الزنادraquo;، وليضيف أثناء الحديث عن ثورة مصر: laquo;جاء هذا اليوم بعد أسابيع معدودة من ثورة سياسية شاملة في تونس قامت في ظروف شبيهةraquo;. وبدوره الزميل عبدالباري عطوان لا يزال من بين الكتّاب القلائل الذين يذكرون في مقالاتهم فضل تونس في مسار الثورة الحالي، الذي يهز المنطقة العربية من المحيط إلى الخليج. يقول عبدالباري laquo;إن الزحف الوطني الديمقراطي انطلق من تونس الكرامة، وحط رحاله في أرض الكنانة، وسيقفز منها حتماً إلى محطة جديدةraquo;.
مثلما تخلص المصريون من نظام مبارك، أعتقد أنه من المهم جدا أن يتخلصوا من laquo;عقلية نحن الكل في الكلraquo; والباقي لا شيء، فقد تسببت هذه العقلية في عزلة مصر وبُعدها عن محيطها العربي لسنوات، يكفي أن تونس الصغيرة بشعبها المسالم عبّدت الطريق لأكبر دولة في العالم العربي لتسير في طريق الحرية والتحرر. فعلى المصريين ألاّ ينسوا هذا في كتاباتهم وحكاياتهم، لأن هذا هو التاريخ، والذي يتطاول على التاريخ سيأتي اليوم الذي يجد فيه نفسه مرميا في مزبلته. هناك أصوات كثيرة عاقلة لا تغفل هذا الجانب، لكن للأسف هناك أصوات كثيرة أخرى قوية ومؤثرة تحاول القفز على التاريخ لترسم ثورة مصر كما لو كانت ظاهرة سياسية لم يعرفها التاريخ ولن يعيدها.