رياض نعسان أغا

على رغم إيماني العميق الذي كررت الحديث عنه في كل ما كتبت في هذه الصفحة منذ عشر سنين مؤكداً أن أمة عربية جديدة تتكون تحت الرماد، إلا أنني وربما كل المتفائلين بالعروبة أمثالي، نعيش حالة دهشة من طريقة الولادة المبدعة لهذه الأمة، حتى إن أعتى أجهزة الاستخبارات في العالم بما فيها quot;السي آي إيهquot; وquot;الموسادquot; رغم ما حققت من اختراقات عميقة في الجسد والفكر العربي، وبما تملك من تقنيات لم تستطع أن تتنبأ بما حدث، فقد اندلعت هذه الثورات العربية غير المسبوقة في تاريخ الأمة، بلا خطط وبلا تنظيم، بلا قيادات وبلا إيديولوجيات، بلا أحزاب وبلا منظمات، هي ثورات تنتمي إلى مجتمع جديد، يسمونه المجتمع الافتراضي الذي صنعته التقنية عبر الإنترنت الذي أتاح التعارف بين الشباب متجاوزاً الحركات الوطنية التي أسهم بها اختراع quot;الترانستورquot; في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وكانت حركات انقلابية منظمة ومحدودة يقوم بها ضباط من الجيش وحدهم ويدعون الجماهير إلى الالتفاف حول البيان الأول، وحتى تلك الثورات التي أسهم فيها quot;الفاكسquot; وبدت أكثر عفوية من الانقلابات التقليدية كانت لها قيادة وتنظيم وإيديولوجيا. ولئن كانت ثورات شعوب المعسكر الاشتراكي السابق تقدم نماذج مشابهة لما يحدث في الوطن العربي، إلا أن حدثاً جللاً كان سبب تلك الثورات هو انهيار الاتحاد السوفييتي الذي تبعه انهيار جدار برلين، ولم يحدث في الوطن العربي من قبل مثل هذا الانهيار إلا يوم نكسة حزيران، يومها تخلى عبدالناصر عن منصبه لكن الجماهير خرجت تتمسك به كي لا يتركها وحيدة تواجه الضياع. وهكذا بدت جل الأنظمة العربية مستقرة، وينال بعضها حظوة ودعماً واضحاً من الغرب عامة ومن الولايات المتحدة بخاصة، وبعضها يتفرد بدعم صهيوني كبير، فنظام بن علي في تونس منح إسرائيل حيوية في مطاردة الفلسطينيين، ونظام مبارك بدا ضمانة أمن ومستقبل إسرائيل. وأما نظام القذافي فقد أوضح صمت الغرب عما ارتكبه من مجازر وارتباكه في إدانته، عمق تواطئه، وقد غرق النظام العربي الرسمي في تحالفات عربية وإقليمية أفقدته حرية الحركة والمبادرة إلى درجة أن إقدام تركيا على كسر الحصار الإسرائيلي على غزة بسفن الحرية صار حدثاً ملهماً لجماهير العرب التي شعرت بمهانة كبرى حين وجدت نفسها تعيش على هامش التاريخ، بل تكاد تخرج منه. وكان موجعاً لوجدان العرب أن يجدوا أنفسهم يتخلفون عن دول تكبر في المنطقة وهم يصغرون، فتركيا لم تكن قبل بضع سنين أفضل حالاً من الدول العربية المجاورة، ولكن تركيا التي خاضت تجربة الديمقراطية تقدمت بخطى واثقة لتعلن عن حضورها الدولي، ولتمارس دوراً قياديّاً صار العرب أنفسهم يتعلقون به، حتى إن كثيراً من العرب رفعوا فوق بيوتهم أعلام تركيا وصور أردوغان يوم صفع بيريز بحقيقة كونه مجرماً في quot;دافوسquot;، ويوم تحدى حصار غزة بسفن الحرية.

وأما إسرائيل فقد كبر حضورها الإقليمي والدولي بعد أن نجحت في قصم ظهر العرب عبر اتفاقيات سلام واهية جعلت القضية العربية المركزية تختزل من تحرير الأرض المحتلة عام 1948 إلى نضال من أجل تجميد مؤقت للاستيطان. وكان من المفارقات أن الولايات المتحدة التي سعت طويلاً لإيقاف مؤقت للاستيطان استخدمت quot;الفيتوquot; ضد مشروع قرار يدينه في مجلس الأمن، وكان العرب تفجرت في وجدانهم مشاعر الإذلال لهم منذ اتهامهم بجريمة 11 سبتمبر دون تحقيق، وما تلاها من حملة تشويه لدينهم ولتاريخهم، وصلت إلى حد احتقارهم، وإلى حد الاعتداء الجسدي (وحسب القارئ شاهداً ما حدث لمروة الشربيني التي قتلت في محكمة في ألمانيا لمجرد كونها محجبة)، ولم يكن الحكام العرب يدركون خطورة شعور الشباب بالذل وهم يقفون أياماً على أبواب السفارات للحصول على تأشيرات للهرب من واقعهم المرير، ولا ما يعانونه من قسوة وهم يتسللون عبر البحر في هجرات غير شرعية، فيلاحقون ويقتلون وتحمل الأمواج العاتية جثثهم المتعفنة إلى الشواطئ!





ولم يكن الحكام العرب يقدرون خطورة أن ينغمسوا مع دعوة الغرب إلى حملة مكافحة الإرهاب المفتعلة لتغطية الإرهاب الحقيقي الذي تمارسه إسرائيل وبعض الأجهزة العربية المرتبطة بها (وحسبنا دليلاً حادثة كنيسة القديسين)، وقد أخطأت الأنظمة العربية حين رحبت بالدعوات إلى الاستغراب تحت يافطة العولمة، فباتت الحرية في بعض الدول العربية ساحة رحبة ومفتوحة لكل التجمعات والجمعيات والنوادي التي تستبعد من ميدانها كلمتين اثنتين هما (العروبة والإسلام) بينما المنع والتضييق والرقابة على من ينادي بالعروبة والإسلام. وقد بدا أن ما بذله الإعلام الموجه في العام والخاص من جهود مكلفة لمسح عقول الشباب وتدجينهم وإلهائهم بشتى أنواع الإلهاء عبر الفن الرخيص والثقافة السطحية وعبر افتعال مشكلات مصطنعة بذلت في اختراعها مراكز الأبحاث الليبرالية الجديدة جهداً كبيراً مثل افتعال مشكلة الأقليات والصراعات الطائفية والمذهبية والإثنية، والتخويف المستمر من فزّاعة الإسلام، بدا كل ذلك جهداً ضائعاً لم يترك أي أثر يذكر في توجهات الشباب الذين انتفضوا للبحث عن الحرية، وهم مسلمون ومسيحيون وعلمانيون ومن مختلف المشارب تجمعهم عقيدة الانتماء إلى الوطن وحدها.

كان الاضطهاد هو الذي دعا البوعزيزي لإحراق نفسه، ولكن الذين استلهموا من مصرعه التراجيدي ثورتهم، لم يكن الفقر أو البطالة وحدهما دافعهم، وإنما كان يدفعهم ضيقهم بالظلم والاستبداد الذي مارسته أجهزة القمع والكبت والتخويف. كانت جموع الثائرين الأوائل من طبقة المتعلمين وهم شعلة الطبقة الوسطى التي كانت تشعر بالانسحاق أمام طبقات الفساد المبرمج، والثراء الفاحش عبر السرقات الكبرى التي تحميها أنظمة الظلم والتعسف والاستعلاء على عامة الشعب.

وهذه الخصوصيات لثورة الشعب العربي تبرز حاجة ملحة للسؤال الحار (ماذا بعد الثورة؟ وكيف تحمي الشعوب منجزها التاريخي؟) فهؤلاء الشباب يطلبون الحرية ولكنهم لا يمتلكون وسائل تطبيقها الآن، وقد يخطف وهج هذه الثورات خبراء في الاستلاب كما حدث في بعض ثورات المعسكر الاشتراكي السابق، ولذلك أرجو من الشباب الثائرين ألا يعلنوا انتهاء ثوراتهم حتى يحققوا ما حلموا به من ترسيخ لقيم ديمقراطية قوية البنيان، تتيح للتنوع الثقافي وللتعددية السياسية والفكرية والعقائدية أن تحيا في فضاء صحي مطمئن، وأن تسمح للآخر مهما كان رأيه ومعتقده أن يعيش آمناً غير خائف من ملاحقة أو اعتقال، فقد أشرق على العرب بعد عقود طويلة عصر الحرية والشفافية واحترام إنسانية الإنسان.